دمشق-سانا
لم تكن توقعات الأطباء عند ولادتها مبشّرة، فحالتها النادرة، التي تُعرف بمرض العظم الزجاجي، دفعتهم إلى إبلاغ أسرتها بأن الطفلة لن تعيش أكثر من عامٍ واحد، لكن السنوات خالفت كل التوقعات، كبرت منى على كرسيها المتحرك، وبلغت السادسة والثلاثين، تحمل معها قصة صمود تتجاوز حدود الجسد إلى روح لا تنكسر، هذا ما أوضحته منى عمقي في حديثها لـ سانا.
تقول منى: منذ طفولتي كان الكسر والجبيرة جزءاً دائماً من حياتي، ومع كل سقوط كنت أنهض بإصرار أكبر، لكن التحدي الأصعب لم يكن الألم الجسدي فحسب، بل ما واجهته من نظرات المجتمع، والنقد الجارح، أو كلماتٍ تُحاول إقناعي بأن مكاني المنزل لا أكثر.
وتضيف: وصلت إلى السنة الثالثة في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق وفي برنامج الترجمة بالتعليم المفتوح، لكن لم أكمل ومع ذلك لم أتوقف عن التعلم فقد جمعت شهادات عدّة من بينها شهادة مدرب معتمد من جامعة “Kingston” البريطانية، إضافة إلى الحصول على درع “TEDx”كمتحدثة على منصة تيديكس العالمية بخطاب حمل عنوان “الكلمة بتفرق”، إدراكاً مني لقوة الكلمات وأثرها على حياة الأشخاص من ذوي الإعاقة، كما حصلت على جائزة أكثر عشرة شباب مميزين حول العالم في فئة الريادة بالأعمال التطوعية والريادية من قبل الغرفة الفتية الدولية “JCI”.
الحياة الشخصية والتحديات
اللحظة التي كادت توقف مسيرتها كانت في أواخر عام 2011، حين رحلت والدتها بشكل مفاجئ، وعن هذا تقول: “أمي لم تكن تتوقف عن القول: “منى لازم تتعلم.. لازم تشتغل.. لازم تطلع على الحياة”، ولكن برحيلها، انطفأ الضوء بالنسبة لي، فابتعدت عن الدراسة والعمل، لكنني عدت لإكمال الطريق لأنه هو الوفاء الحقيقي لما تمنته أمي.
وتتابع: “بعد رحيل والدتي رحل والدي، ومنذ ست سنوات أعيش وحدي، وأمارس تفاصيل حياتي اليومية دون مساعدة أحد، وأتابع نشاطاتي الاجتماعية، فالاستقلالية ليست حلماً بعيداً لمن يملك الإرادة”.
مبادرة “الإعاقة انطلاقة”
توضح منى أنها في عام 2017 قررت أن تجعل من تحدياتها قوةً تغير حياة الآخرين، فأطلقت مبادرة “الإعاقة انطلاقة”، التي تُعنى بتدريب وتأهيل الأشخاص من ذوي الإعاقة للدخول إلى سوق العمل، ومساعدتهم على إيجاد فرص عمل تليق بخبراتهم وقدراتهم، وتقول: “كثيرون كانوا محبوسين في بيوتهم لسنوات.. ليس بسبب إعاقتهم، بل لأن المجتمع لم يمنحهم فرصة”.
وتبيّن أنه مع مرور الوقت، بدأت المبادرة تلقى تأثيراً إيجابياً في حياة العديد من ذوي الإعاقة، وساعدتهم على الخروج من منازلهم، وفتحت أمامهم باب العمل والإنتاج، ما دفعها لإطلاق السوق الخيري لذوي الإعاقة عام 2021، لعرض منتجاتهم، في تجربة عززت ثقتهم بأنفسهم وقدرتهم على الإبداع.
وتشير إلى أنها تستعد حالياً لتنظيم برامج تدريب جديدة تشمل الحرف اليدوية وآليات التعامل مع ذوي الإعاقة، ودورات التسجيل في الجامعة الافتراضية.
العمل في شركة اتصالات
تلفت منى إلى أنها في عام 2019، انضمت إلى شركة اتصالات مجهزة بالكامل لاستقبال ذوي الإعاقة ، بعد أن واجهت سابقاً رفضاً من بعض الشركات لمجرد كونها على الكرسي المتحرك، حيث وفرّت لها بيئة العمل جميع التسهيلات اللازمة، من مداخل ومرافق عامة ومكاتب مجهزة، ما مكنها من أداء مهامها بشكل مستقل دون الحاجة لمساعدة أحد، مشيرة إلى أن هذه التسهيلات ساعدتها على الاندماج في العمل بكفاءة واستمرار نشاطها المهني والروتيني اليومي بكل راحة واستقلالية.
وتختتم منى رسالتها عبر سانا بالقول: “الحياة صعبة، لكن الإعاقة ليست نهاية الطريق.. ابحث عن الشيء الذي تستطيع أن تفعله.. وابدأ”.
قصة منى ليست مجرد انتصار شخصي، بل رسالة أمل تُثبت أن الإرادة قادرة على تحويل التحديات إلى بداية لانطلاقة جديدة، انطلاقة تشبه اسم مبادرتها تماماً.