سانا-سانا
يصادف اليوم الذكرى الثانية عشرة لمجزرة الكيماوي التي ارتكبها النظام البائد بحق المدنيين في غوطة دمشق عام 2013، والتي كانت واحدةً من أبشع الجرائم، ففي هجومٍ مباغتٍ استخدمت قوات النظام البائد غاز السارين المحظور دولياً، ما أسفر عن استشهاد أكثر من 1400 مدني، بينهم 200 طفل وامرأة، وإصابة آلاف آخرين بأعراض اختناق وتسمم مروعة.
صورة عن وحشية النظام البائد
لم تكن هذه المجزرة حادثةً عابرةً، بل محطةٌ فاصلةٌ كشفت عن وحشية ذلك النظام الذي لم يتردّد في استهداف المدنيين وهم نائمون بصواريخ تحمل غاز السارين عند الساعة الثانية فجراً في بلدات زملكا، وعين ترما، وحمورية، وسقبا، ودوما، والمليحة، وكفر بطنا، وجسرين، والمعضمية، حيث انتشر الغاز سريعاً في الأحياء والمنازل، محدثاً مشاهدَ مأساوية لعائلات استشهدت بالكامل على فراشها، بينما عجزت المشافي الميدانية عن استيعاب الأعداد الهائلة من المصابين بسبب نقص المعدات والأدوية.

وأظهرت التقارير الطبية إصابات باضطرابات حادة في التنفس، وتوسع حدقة العين، وتشنجات عضلية، إلى جانب ظهور زبد على فم الضحايا، فيما استهدف النظام المشافي نفسها خلال محاولات إنقاذ المصابين، في انتهاك صارخ لكل معايير الإنسانية. وللتغطية على جريمته، عمد النظام إلى تقديم خرائطَ مزيفة للمواقع المستهدفة واحتجاز ذوي الضحايا لإجبارهم على الإدلاء بشهادات مزيفة أمام لجان أممية.
وبعد ثلاثة أيام، وصلت فرق مفتشي الأمم المتحدة إلى دمشق، وجمعت عينات أكدت استخدام غاز السارين، ما دفع مجلس الأمن الدولي إلى تبني القرار رقم 2118 في أيلول 2013، الذي نص على تفكيك الترسانة الكيماوية تحت إشراف منظمة حظر الأسلحة الكيميائية. ورغم ذلك، تكررت الهجمات الكيماوية لاحقاً في مناطق مثل خان شيخون ودوما، ما أثار مخاوف بشأن استمرار النظام في الاحتفاظ بأجزاء من مخزونه.
وخلصت بعثة الأمم المتحدة في تقرير نشره الأمين العام “بان كي مون” في 16 أيلول 2013، إلى أن “الأسلحة الكيميائية استخدمت في النزاع في سوريا، بما في ذلك ضد المدنيين والأطفال على نطاق واسع نسبياً”، مؤكداً أن النتائج قاطعة ولا تقبل الجدل.
ناجون من الكيماوي يرون الحقيقة

وأكدت شهادات الناجين والممرضين على حجم المأساة، حيث وصفت في تصريح لـ سانا الممرضة من المشفى الميداني بالمعضمية هناء حسنين تداعيات الهجوم قائلةً: إن “أجساد الضحايا كانت منتفخة والزبد يخرج من أفواههم، وعيونهم متوسعة، ولم نكن نملك خبرةً أو أدواتٍ للتعامل مع هذه الحالات، فاضطررنا لاستخدام الماء والخل والبصل، وسط نقص حاد في الأدوية والأكسجين”.
وأضافت حسنين: كان النظام البائد آنذاك يحاصر المدينة بشكل خانق، فلا أدويةَ ولا أكسجين، ولم يكتفِ بإطلاق غاز السارين، بل حاول اقتحام المدينة من أكثر من جهة، وقصف بالطيران عدداً من الأحياء ما زاد في عدد الشهداء والجرحى الذين افترشوا الشوارع، حتى أصبح المسعف بحاجة إلى مساعدة والطبيب يحتاج لمن يعالجه، مشيرة إلى أن الكادر الطبي ظهرت عليه الأعراض أيضاً وفقد القدرة على إنقاذ الضحايا.
ومن الناجين أيضاً طارق سليمان وزوجته هالة شعبان والدكتور إياد السطيف، فاستذكروا في تصريحات لـ سانا مشاهد الخوف والهلع، والجهود المضنية لإنقاذ الأطفال والنساء والرجال، بينما انتشرت الجثث في الشوارع والمستشفيات الميدانية، وسط عجز الكوادر الطبية عن التعامل مع الأعداد الهائلة من الضحايا.

وقال سليمان ابن الغوطة الشرقية وهو عضو رابطة ضحايا الأسلحة الكيماوية التي تأسست عام 2020: ليلة لا يمكن أن تنسى لم تكن تشبه ليالي القصف التي كان النظام البائد وقواته يرتكبونها في غوطة دمشق، فصوت سقوط الصواريخ كان مختلفاً، وبعد انتشار الرائحة الغريبة تأكدنا أننا قصفنا بالكيماوي.
وأضاف: أسرعت مع زوجتي بحمل طفلتي بعمر عامين والأخرى بعمر ستة أشهر والخروج إلى مناطق عالية، ثم خرجنا بالسيارة إلى بلدة حزة، وعدت لإنقاذ المصابين وإسعافهم إلى مشفى كفر بطنا، حيث كان الضحايا يتنفّسون بصعوبة، والإسعافات كانت تقتصر على رش الماء ووضع أقنعة التنفس ،لكن كانت الأعداد كبيرة وخاصة بين الأطفال.
وتابعت زوجته هالة: أعراض استنشاق الكيماوي ظهرت لدي في اليوم الثاني حيث عانيت من ألم شديد وصعوبة تنفس، ونجوت من الموت بأعجوبة بعد تلقي علاج بالمشفى، مشيرة إلى أنها عملت لاحقاً في الدفاع المدني السوري لتقدم الإسعافات للمصابين جراء جرائم النظام البائد، مضيفة: “من ينجو من جرائم نظام الأسد يكتب له عمر آخر ويزداد إصراراً على مواصلة طريق الثورة حتى النصر الذي تحقق في الـ 8 من كانون الأول الماضي”.
أطفال ماتوا بصمت… روايات لا تُنسى من ليلة الكيماوي
بدوره أوضح الدكتور السطيف أنه كان وقت وقوع المجزرة طبيب في بلدة بعين ترما في نقطة كوين هوم الطبية، ويسكن قريباً منها، مستذكراً: الساعة الثانية ليلة يوم 21 أب قبل 12 عاماً سمعت صراخاً صادراً من الساحة أمام النقطة، مع قرع باب المنزل بقوة ونداء استغاثة، كان أحدهم يطلب الإسعاف لطفلة عمرها 3 سنوات يخرج الزبد من فمها وتتنفس بصعوبة.. لا يمكن أن أنسى هذا المشهد، وبعد أن خرجت إلى الساحة شاهدت الضحايا بالمئات أطفال ونساء ومسنين يصارعون الموت بصمت، وعندما شممت رائحة غريبة أدركت أنه تسمم بغاز كيماوي.
وأضاف: “طلبت تشغيل صهاريج الماء في الساحة وتوجيه الخراطيم للسماء كي نوجد جواً شبيهاً بالمطر وبدأنا بتغسيل المصابين برذاذ الماء، وخلع ثيابهم المشبعة بالغاز السام، واستمر ذلك حتى الساعة الخامسة فجراً، لكن معظم المصابين استشهدوا قبل أن يصلوا إلى الساحة.
وبصوت مخنوق يصف الدكتور السطيف المشهد “بينما كنت أمشي بين الجثث وأنا متعب سمعت صوتاً من خلفي ؛ “دكتور كرمال الله شفلي هالصغار عايشين”، التفت وإذا برجل يحمل توءَمين من الأطفال بعمر 6 أشهر، وضعت يدي على النبض، لا شيء، وجوه شاحبة باردة وأطفال شهداء، وصلت لمرحلة لم أعد أستطيع الحراك ووقعت أرضاً، لقد كانت مشاهد كثيرة ومهولة”.
رائحة الكيماوي باقية في الذاكرة ودعوات متجددة لمحاسبة المجرمين
من جهته، استرجع عضو المكتب الإعلامي آنذاك نور الدين مخيبر والمعروف تحت مسمى “داني قباني”، شريط ذكرياته وما عاشه في تلك اللحظات بعد محاولاته لإنقاذ المصابين ونقل الضحايا، حيث كانت الشوارع تغص بهم، وقال: “عند وصولي المشفى، رأيت جثثاً ملقاة وكان الناس يرشون الماء على المصابين ويحاولون تحريكهم، ثم دخلت إلى قبو المشفى، فوجدت عشرات الجثث، بينما الأطباء محبطون يحاولون إنعاش المصابين، بعضهم يظهر عليه حركات لا إرادية والكثير بلا حركة نهائياً”، مشيراً إلى أن أغلب الضحايا كانوا يعانون سوء تغذية بسبب الحصار الذي كان يفرضه النظام البائد على مدينة معضمية الشام.

إلى ذلك، أكد المصور عامر الموهباني “الشامي”، أن المجزرة شكلت صدمة غير مسبوقة؛ إذ اضطر الأهالي إلى دفن الشهداء في مقابر جماعية بسبب العدد الكبير، وهو ما يجعل الذكرى الثانية عشرة لهذا الحدث محطة لتأكيد ضرورة تحقيق العدالة ومحاسبة المجرمين، لضمان عدم الإفلات من العقاب وإرساء دولة القانون والمؤسسات في سوريا المستقبل.
وأضاف: كانت جميع المستشفيات تعيش نفس الواقع الأليم من حيث نقص المعدات والأدوية، حتى بدأنا نستوعب شيئاً فشيئاً ما يحدث، ووثقنا ما حدث، كانت مجزرة رهيبة لم نشهد لها مثيلاً في التاريخ، وفي النهاية تم إنشاء مقبرة جماعية لدفن الشهداء؛ لأن الأعداد هائلة، حيث تم حفر قبور وخنادق طويلة بعمق متر ونصف المتر، وطول ثلاثين أو أربعين متراً في مكان بجوار حي المزرعة.
وشدد الموهباني على أن الذكرى الثانية عشرة لهذه المجزرة تحمل أهمية خاصة مع انتصار الثورة، لتعيد التأكيد أن تحقيق العدالة ومحاسبة المجرمين مهما طال الزمن يعد شرطاً أساسياً لإرساء دولة القانون والمؤسسات في سوريا المستقبل، التي لا مكانَ فيها للإفلات من العقاب أو تكرار الانتهاكات بحق المدنيين.
يُذكر أن مجزرة الغوطة وقعت في الـ 21 من آب 2013، وأسفرت عن استشهاد المئات من المدنيين الأبرياء، معظمهم من النساء والأطفال، نتيجة استخدام النظام البائد أسلحة كيميائية محرّمة دولياً.