دمشق-سانا
نموٌ متسارع يفوق التوقعات تشهده الجرائم الإلكترونية، مهددةً الأفراد والمؤسسات والاقتصادات الوطنية، بل تمتد آثارها إلى الأمن الدولي، إذ لم تعد هذه التهديدات مجرد أرقام أو تقارير، بل واقع يومي يعيشه كل مستخدم للإنترنت.
فالقصة قد تبدأ بنقرة واحدة: يدخل المستخدم إلى موقع يبدو مألوفاً، يختار منتجاً، يُدخل بياناته البنكية، ويضغط على “تأكيد الشراء”، لكنه لا يدرك أن حرفاً واحداً في عنوان الموقع كان كفيلاً بتحويله إلى فخ رقمي محكم، تُسحب فيه أمواله وتُسرق بياناته دون أن يترك المجرمون أثراً يُذكر.
تحرك عالمي لمواجهة التهديدات الرقمية
في ظل تصاعد هذه المخاطر، اعتمدت الأمم المتحدة أول اتفاقية دولية لمكافحة الجرائم الإلكترونية، حيث وقّعت أكثر من 60 دولة في العاصمة الفيتنامية هانوي اليوم على الاتفاقية التي تهدف إلى تعزيز التعاون الدولي في مواجهة هذه الجرائم متعددة الأوجه، من استغلال الأطفال في المواد الإباحية إلى الاحتيال وغسل الأموال، وستدخل الاتفاقية حيّز التنفيذ بعد مصادقة الدول الموقعة عليها.
وتضع الاتفاقية إطاراً قانونياً موحداً لمكافحة الجرائم الإلكترونية، يشمل توحيد التعريفات والمعايير الخاصة بالتحقيقات والمساعدة القانونية، إلى جانب آليات لتعويض الضحايا وإزالة المحتوى غير القانوني.
وعبّر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن ارتياحه لهذه الخطوة، واصفاً إياها بأنها “مجرد بداية”، وقال خلال مراسم التوقيع: “في كل يوم تدمر عمليات الاحتيال المتطورة حياة العائلات، وتستغل المهاجرين، وتستنزف مليارات الدولارات من الاقتصاد العالمي… نحن بحاجة إلى رد دولي قوي ومترابط”.
وجاء التوقيع على الاتفاقية بعد اعتمادها من الجمعية العامة للأمم المتحدة في كانون الأول 2024 عقب خمس سنوات من المفاوضات بين الدول الأعضاء، بمشاركة خبراء وممثلين عن المجتمع المدني والأوساط الأكاديمية والقطاع الخاص.
أرقام صادمة عن الجرائم الإلكترونية
في الولايات المتحدة وحدها، بلغت خسائر الاحتيال والهجمات الرقمية نحو 16.6 مليار دولار في عام 2024، بزيادة قدرها 33 بالمئة عن العام السابق، وفقاً لمكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي.
وعلى الصعيد العالمي، تشير التقديرات إلى أن الجرائم الإلكترونية تسببت بخسائر تجاوزت 9.5 تريليونات دولار في عام 2024، ومن المتوقع أن ترتفع إلى 10.5 تريليونات دولار في 2025، لتصبح بذلك ثالث أكبر “اقتصاد” في العالم بعد الولايات المتحدة والصين.
ويُعد هذا الرقم أكبر خسارة للثروة الاقتصادية في التاريخ، متجاوزاً حتى الأضرار الناجمة عن الكوارث الطبيعية خلال عام واحد، بحسب تقرير شركة “بي دي إيمرسون” للأمن السيبراني، كما ارتفع متوسط تكلفة خرق البيانات عالمياً إلى 4.88 ملايين دولار في 2024، بزيادة 10% عن العام السابق.
تطور نوعي في أساليب الجريمة
لم تعد الهجمات الإلكترونية مجرد أعمال فردية ينفذها قراصنة هواة، بل أصبحت تُدار من خلال شبكات منظمة تعمل كصناعة إجرامية متكاملة.
من مجموعات التصيّد الجاهزة التي تتيح لأي شخص إنشاء موقع مزيف خلال دقائق، إلى استخدام الذكاء الاصطناعي في إنتاج صور وأصوات مزيفة بتقنيات التزييف العميق، تتطور أدوات الجريمة بوتيرة تفوق قدرة القوانين الوطنية على المواكبة.
ويُقدّر أن ملايين أسماء المستخدمين وكلمات المرور المسروقة تُعرض للبيع في “الإنترنت المظلم”، وتُستخدم لاحقاً في هجمات آلية تستهدف آلاف الحسابات دفعة واحدة.
بؤرة ناشطة للجريمة الرقمية
تشير تقارير مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة إلى أن مناطق مثل كمبوديا والفلبين تحولت إلى مراكز تشغيل لشبكات الاحتيال عبر الإنترنت، حيث تُستخدم “مزارع رقمية” لإدارة حملات تصيّد وسرقة بيانات عابرة للحدود.
ويُعد غياب التشريعات الواضحة وصعوبة التعاون القانوني الدولي من أبرز العقبات التي تعيق ملاحقة مرتكبي هذه الجرائم.
تحديات التنفيذ ومخاطر المستقبل
رغم الإجماع الدولي على أهمية الاتفاقية، يواجه تنفيذها العملي تحديات كبيرة، أبرزها تفاوت القدرات التقنية بين الدول الغنية والنامية، إلى جانب التطور السريع في تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تمنح المجرمين أدوات جديدة باستمرار، كما أن ضعف الإبلاغ عن الهجمات، سواء بسبب الخوف أو فقدان الثقة في قدرة السلطات، يجعل من الصعب تقدير الحجم الحقيقي للخسائر الرقمية.
وعي المستخدم… خط الدفاع الأول
إلى جانب القوانين والاتفاقيات، يبقى وعي المستخدم هو السلاح الأهم في مواجهة الجريمة الإلكترونية، فالتأكد من عنوان الموقع قبل إدخال البيانات، وتفعيل المصادقة الثنائية، وتجنّب مشاركة المعلومات الحساسة عبر البريد الإلكتروني أو الروابط المشبوهة، كلها إجراءات بسيطة لكنها فعالة في الحماية من الخسائر.
التحدي لا يكمن فقط في ملاحقة المجرمين، بل في بناء ثقافة رقمية واعية تدرك أن الأمن الإلكتروني يبدأ من أبسط تصفح يومي على الشبكة.
ويمثل توقيع الاتفاقية إعلاناً عن مرحلة جديدة من الوعي العالمي تجاه أخطر أشكال الجريمة في القرن الحادي والعشرين، ورغم أنها لن توقف كل هجوم إلكتروني بين ليلة وضحاها، إلا أنها ترسم بداية طريق نحو فضاء رقمي أكثر أماناً، طريق يبدأ من قرار دولي، ويمتد حتى وعي المستخدم الذي يدرك أن “نقرة واحدة” قد تغيّر كل شيء.