دمشق-سانا
تفتح المكتبة الوطنية السورية في دمشق باب الذاكرة على أوسعِه عبر ورشات ترميم المخطوطات، حيث يتحول العمل اليومي الدقيق إلى حِرفةٍ لحماية كنوز الورق من آثار الزمن، وفعلِ إنقاذٍ صامت لهذا التراث المهدد.

في هذا الحوار، تكشف إيمان الفاعوري مديرة الإجراءات المساعدة، التي تشمل أقسام /الترميم والتصوير المطبعة والتجليد/ في المكتبة لـ سانا، أسرار هذه الحرفة التي تمزج بين العلم والفن، وحدود الممكن في مختبر يواجه نقص الإمكانات، ورهانات الحفاظ على أصالة المخطوطات بوصفها جزءاً حياً من الذاكرة الثقافية.
ترميم المخطوطات بين العلم والحفاظ على الأصالة
تتحدث الفاعوري عما أسمته فلسفة الترميم كعلاج يحافظ على أصالة المخطوط، وآلياته العلمية والفنية، والتعقيم كدرعٍ ضد الميكروبات والحشرات والتحديات القاسية التي تواجه الفرق المتخصصة وأساليب التعامل مع أضرار الرطوبة وارتفاع الحرارة.

والترميم وفقاً للفاعوري هو إجراء علاجي لأوراق المخطوط المتضررة بفعل الزمن، من تشققات وتكسر في الأطراف، بهدف تثبيتها وتقويتها باستخدام مواد وطرائق ملائمة لطبيعتها الورقية دون الإخلال بأصالتها، كما أنه عملية إصلاح علمية وفنية تعيد المخطوط إلى هيئة قريبة من شكله الأول، مع الحفاظ على قيمته التاريخية وعدم تشويهه أو إضافة ما ليس منه.
وتشدد الفاعوري على أن تعقيم المخطوطات ضرورة أساسية، كونه يقضي على أشكال الحياة الميكروبية من جراثيم وفطور، إضافة إلى الكائنات الحية كالحشرات التي تشكل أحد أهم أسباب تلف التراث الورقي.
تحديات تواجه عملية الترميم
تلفت الفاعوري إلى أن من أبرز التحديات التي تواجه عمل المديرية نقص المواد الأساسية، وعلى رأسها أوراق الترميم المتخصصة ومواد التعقيم الآمنة المخصصة للمخطوطات، وقلة الكادر المؤهل، قياساً بعدد المخطوطات التي تحتاج إلى ترميم عاجل، ما يفرض ضغطاً كبيراً على فريق العمل.
وتضيف: إن غياب الأجهزة الحديثة، يضاعف زمن إنجاز العمل، فيما يعمل الفنيون في ظروف بيئية غير ملائمة، ولا سيما بعد العدوان الإسرائيلي الذي أثّر في البنية الخدمية للمكان.
مواد وأساليب ترميم المخطوطات اليدوي
تشير الفاعوري إلى أن العمل في المديرية يعتمد على الترميم اليدوي باستخدام مواد مختارة بعناية، منها أنواع من النشاء المحضر بطريقة صحيحة، ومواد لاصقة، وخاصة للصق أوراق الترميم بأوراق المخطوط.

كما تصنع أوراق الترميم من ألياف السليلوز الورقية، وتستخدم خيوط متينة للحَبْكة والخياطة، وأصبغة مخصصة لصبغ الجلد، إضافة إلى جلود الماعز الطبيعية، مع أصبغة مخصصة لتلوين الجلود وأصبغة طبيعية لتلوين أوراق الترميم، بما ينسجم مع اللون الأصلي.
وتستخدم مواد كيميائية خاصة لتعقيم المخطوطات، إلى جانب الكحول لتنظيف الصفحات بحذر شديد، من دون إدخال تقنيات حديثة واسعة النطاق حتى الآن.
وحول التعامل مع أضرار الرطوبة والحشرات توضح الفاعوري أن كثيراً من حالات التلف تكون ناجمة عن سوء الحفظ، ولا سيما ارتفاع الرطوبة والحرارة، ما يجعل الورق بيئة ملائمة لنمو الفطور والحشرات، لذلك يجري الحرص على تخزين المخطوطات في أماكن تتراوح فيها الرطوبة ضمن حدود مناسبة، مع الحفاظ على درجة حرارة معتدلة، إلى جانب التعقيم الدوري لمنع انتشار الحشرات وتقليل الثقوب والتآكل في الأوراق.
وتبيّن الفاعوري أن بعض المخطوطات المتآكلة بشدة تصبح غير قابلة للإصلاح، بينما تعالج أخرى بحسب درجة الضرر، بإغلاق الفجوات وتقوية الأجزاء الضعيفة، إدراكاً أن الترميم عملية دقيقة وليست سهلة.
غياب المختبر المتكامل والحاجة إلى كادر جديد
تكشف الفاعوري أنه لا يوجد في المديرية مختبر متكامل بمعناه العلمي، بل بعض الأجهزة البسيطة لقياس الحموضة وكثافة الورق، وعدد من المواد الكيميائية القديمة، إلى جانب خزانة مخصصة لتعقيم المخطوطات، مؤكدةً أهمية تأهيل كادر جديد متخصص في الترميم داخل القسم.

وفي هذا الصدد تشير إلى أنه تم تنظيم معسكر تدريبي لمدة شهرين لطلاب المعهد التقني للآثار والمتاحف، تلقوا خلاله تدريبات عملية على بعض مراحل الترميم، ونالوا في نهايته شهادات إتمام دورة تدريبية.
نظرة إلى المستقبل
ترى الفاعوري أن مستقبل صيانة المخطوطات في المكتبة الوطنية يرتبط بتأمين المواد المتخصصة، وتحديث التجهيزات، وتهيئة بيئة مناسبة لحفظ المخطوطات تراعي شروط الحرارة والرطوبة والضوء.
وتشدد الفاعوري على أن الاستثمار في تدريب كوادر شابة وتأسيس مختبر حديث للترميم، سيكونان ضمانة حقيقية لاستمرار حماية هذا التراث المخطوط، الذي يشكل جزءاً أساسياً من الذاكرة الثقافية السورية والعربية.
ورشات ترميم تحافظ على المخطوطات
تضم المكتبة الوطنية السورية آلاف المخطوطات النادرة التي تمثل إرثاً علمياً وثقافياً يمتد لقرون، وتشكل مرجعاً أساسياً للباحثين ودارسي التاريخ والفكر، ومع تعرّض هذا التراث الورقي لعوامل التلف الطبيعية والبيئية، تبرز ورشات الترميم كخط الدفاع الأول للحفاظ على الذاكرة المكتوبة وصونها للأجيال القادمة.