دمشق-سانا
على مدى عقود، احتكر النظام البائد أسماء المؤسسات العامة في سوريا، فألصق بها اسم الحاكم وعائلته في مختلف القطاعات، وكأنها ملكية خاصة وليست ممتلكات عامة للشعب.
هذا النهج الذي حوّل المرافق الوطنية العامة إلى أمكنة لسلطة الفرد وامتداد لسطوته، بدأ يتغير اليوم مع خطوات سوريا الجديدة لإعادة هذه المؤسسات إلى هويتها الطبيعية، وإلى أصحابها الحقيقيين؛ السوريين كافة.
من أبرز هذه الخطوات، كان إعادة تسمية عدد من المراكز الثقافية الكبرى بأسماء تليق بمكانتها، وبما يعيد الاعتبار لدورها الوطني والحضاري.
المكتبة الوطنية.. من سلطة إلى ملكية شعبية
مدير عام المكتبة الوطنية بدمشق، سعيد حجازي، قال في تصريح لـ سانا: إن المكتبة التي افتُتحت عام 1984 كانت تختلف عن معظم المكتبات الوطنية في العالم؛ إذ فقدت منذ اللحظة الأولى ملكيتها للشعب والوطن وتحولت إلى ملكية خاصة للأسد الأب الذي كان حكمه يهيمن على البلاد آنذاك، وأضاف: إن المكتبة دُمغت باسمه ووُضع تمثاله فيها، وأحيطت بالأسوار وعناصر الأمن، فأصبحت في وعي السوريين جزءاً من المنظومة الأمنية للنظام الاستبدادي، وكثيرون ممن مرّوا أمام صرح المكتبة الضخم لم يجرؤوا على التوقف قربه خشية الملاحقة.

وأوضح حجازي أن الباحثين والأكاديميين الذين كانوا يرتادون المكتبة بشكل دائم كانوا يخضعون لتحقيقات أمنية تبدأ بأسئلة عن معلوماتهم الشخصية، وسبب الزيارة، ونوعية الكتب المطلوبة، بل كان طلب أي كتاب قد يثير الشكوك الأمنية، وكفيلاً بتعرض صاحبه للاعتقال أو الاختفاء في أقبية المخابرات، وهو واقع استمر في عهد الأسد الابن.
وحول واقع المكتبة بعد تحرير سوريا قال حجازي: بعد خلاص سوريا من طغيان النظام، بدأ الزوار يتوافدون إلى المكتبة لاستكشافها، وأكد بعضهم أنهم كانوا يظنونها فرعاً أمنياً، مبيناً أن تغيير اسم المكتبة كان ضرورة وطنية، فتمت إزالة اسم الطاغية واعتماد اسم “المكتبة الوطنية” الذي يعكس ملكيتها للشعب.
ولفت حجازي إلى أن المكتبة تضم خزينة علمية وثقافية تدعم البحث الوطني، وهي مفتوحة أمام كل مواطن سوري للاستفادة من مقتنياتها والمشاركة في أي إضافة فكرية أو ثقافية، وهي بيت للسوريين جميعاً، من مختلف الأعمار والطبقات والمستويات العلمية، وليست حكراً على الأكاديميين، بل مكان يلتقي فيه المواطنون ليتعلموا ويتفاعلوا عبر فعاليات متنوعة.
المكتبات الوطنية حول العالم تشكّل صلة وصل ثقافية وعلمية بين الشعوب، ومن هذه المكتبة تنطلق سوريا علمياً وثقافياً نحو العالم، وفق وصف حجازي.
دار الأوبرا.. إعادة الهوية والاسم العالمي
اعتبر مدير عام دار الأوبرا بدمشق ميساك باغبودريان، أن إطلاق أسماء أشخاص أو عائلات تعمل أو تحكم في السياسة على المؤسسات والممتلكات العامة الثقافية هو انتهاك لحقوق الشعب ومخالف للأعراف الدولية.

وأوضح أن إعادة تسمية “دار الأوبرا بدمشق” باسمها الطبيعي أعادت هوية المكان لمجتمعه، فالمؤسسات الثقافية العامة مملوكة للشعب لأنها ممولة من أمواله، معتبراً أن إطلاق اسم أي شخصية سياسية عليها يشكّل مصادرة لحقوقها، فهي مرافق تابعة للدولة لا لمرحلة أو لشخص محدد.
واستذكر باغبودريان أنه خلال دراسته في المعهد العالي للموسيقى، كان مشروع المبنى يحمل اسم “المسرح القومي” قبل أن يُحوّل إلى ما فرضه النظام البائد بـ “دار الأسد للثقافة والفنون” عام 2004، ولفت إلى أن سياسة النظام البائد، بعنجهيته وتجاهله التاريخ الثقافي السوري، ساهمت بطمس هوية المكان كدار للأوبرا وإرباك التعريف به دولياً، في حين أن اسم “دار الأوبرا” هو المعروف عالمياً لمثل هذه المؤسسات.
وأضاف باغبودريان: “في دول كثيرة تُسمّى دور الأوبرا بأسماء مؤلفين أو فنانين تكريماً لإبداعهم، مثل أوبرا فيردي، بينما إطلاق اسم عائلة حاكمة عليها يعكس نمطاً من أنماط الحكم الدكتاتوري عبر التاريخ”.
وحول أثر إزالة الاسم السابق، أوضح باغبودريان أن الخطوة تعني عودة المكان لأهله واستعادة الهوية الأساسية لدار الأوبرا وما تحمله من دلالة على مستوى العروض المقدمة على خشبتها، وأشار إلى أن ذلك يعزز المسؤولية في الحفاظ على المكان وعلى كوادره ومستوى إنتاجه الفني.
كما أن عودة التسمية الأصلية تعزّز الحضور الدولي للدار، وفق باغبودريان، إذ أصبحت “أوبرا دمشق” مماثلة لدور الأوبرا في المدن العالمية الكبرى، معرباً عن أمله في أن يكون لكل مدينة سورية دار أوبرا أو مسرح يقدّم الفنون بتقنيات لائقة تلبي تطلعات الجمهور.
المستشفيات.. تستعيد أسماءها الوطنية
بعد سقوط النظام البائد وانتصار الثورة السورية، شهدت المؤسسات الصحية الرسمية في مختلف المحافظات السورية تغييرات واسعة في أسمائها، في إطار إزالة الأسماء المرتبطة بالنظام البائد ورموزه واستبدالها بأسماء وطنية تعكس موقع المؤسسة ووظيفتها
وشملت هذه التغييرات المستشفيات الجامعية والوطنية في دمشق، مثل الهيئة العامة لمشفى الأسد الجامعي التي أصبحت “المستشفى الوطني الجامعي”، ومستشفى جامعة البعث الذي أصبح “مستشفى حمص الجامعي”، إضافة إلى المستشفيات في كل المحافظات التي حملت أسماء مرتبطة بالنظام البائد مثل مستشفيات باسل الأسد ومشتقاتها في القرداحة والسخنة والقريتين وتلكلخ، وفي دمشق وحلب واللاذقية، وفي حماة وطرطوس ودير الزور، جميعها عادت لتسميتها الطبيعية والوطنية المرتبطة باسم المحافظة التي توجد فيها، بالإضافة إلى مشفى ممدوح أباظة الذي أصبح مستشفى “الجولان الوطني”، لتصبح الأسماء الجديدة أكثر وطنية وتعكس وظائف ومواقع هذه المؤسسات الصحية.
عودة الهوية إلى مرافق سوريا العامة
إعادة تسمية المؤسسات العامة في سوريا هي بمثابة إعادة الاعتبار للهوية الوطنية وحقوق المواطنين في ملكية مرافقهم العامة، وخطوة إزالة أسماء النظام البائد السابق ليست مجرد تغيير شكلي، بل استعادة للوظيفة الحقيقية لهذه المؤسسات، وإعادة فتحها لجميع السوريين دون قيود أو رمزية استبدادية، فالأسماء الجديدة تعكس الانتماء الوطني، وتضع هذه المؤسسات في مكانها الطبيعي كمنصات وحواضن للإبداع والمعرفة والخدمة العامة، هذه المرافق ليست ملكاً لشخص أو عائلة، بل ملكٌ لكل السوريين، فهم من يحرسون هويتهم ومستقبلهم.