عواصم-سانا
نشرت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يوم الجمعة الماضي، رؤيتها لمنظور الولايات المتحدة تجاه القضايا الدولية الأساسية، تحت عنوان “استراتيجية الأمن القومي”، والتي جاءت وفق المراقبين مخالفة لتوجهات الإدارات السابقة، حيث شددت على مبدأ عدم التدخل ووضع “أمريكا أولاً”.
وتصدر كل إدارة أمريكية تقريباً استراتيجية للأمن القومي، تعد بمثابة البيان الأشمل الذي يُعرف كيف ترى الولايات المتحدة العالم، وما تعتبره تهديداً أو فرصة، وما الأدوات التي تعتزم استخدامها لحماية مصالحها.
ويعود هذا التقليد إلى قانون الأمن القومي لعام 1986، الذي ألزم البيت الأبيض بتقديم وثيقة دورية إلى الكونغرس تشرح التوجهات الكبرى للسياسة الخارجية والدفاعية، وتعتبر مرجعاً لتحديد أولويات الإدارة الأمريكية، سواء بما يتعلق بتحديد الخصوم أو شكل استخدام القوة العسكرية أو دور التحالفات.
رؤية جديدة لطبيعة الصراعات
تكشف استراتيجية ترامب الجديدة عن قطيعة نسبية مع النهج الذي ساد منذ نهاية الحرب الباردة وحتى النسخة الأولى من “أمريكا أولاً” خلال الفترة الرئاسية الأولى لترامب عام 2017، فبدلاً من الانطلاق من فكرة قيادة أمريكية لنظام دولي ليبرالي يرتكز على توسيع التحالفات والمؤسسات متعددة الأطراف، تنطلق الوثيقة من فكرة أن العالم مؤلف من دول قومية ذات سيادة، وكل دولة معنية أولاً بحماية حدودها وهويتها ومصالحها الاقتصادية.
ويتمثل التغيير الأبرز في أن “قضية الهجرة” صارت في قلب مفهوم الأمن القومي، لتعلن أن “عصر الهجرة الجماعية يجب أن ينتهي”، كما تعيد الاستراتيجية تعريف السياسة الخارجية كامتداد مباشر لبرنامج داخلي اقتصادي واجتماعي يقوم على إعادة التصنيع، واستعادة الهيمنة في مجال الطاقة، وتقليص الاعتماد على الخصوم في التكنولوجيات الحساسة وسلاسل التوريد.
وتبدلت أيضاً زاوية النظر إلى الصين في الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، فالوثيقة لا تقدم العلاقة مع بكين على أنها مواجهة أيديولوجية بين “الديمقراطية والاستبداد” كما جاء في استراتيجيات سابقة، بل بوصفها علاقة تعتمد على رهانات طويلة على الاقتصاد والصناعة والتكنولوجيا، فيما لا تغيب الحسابات العسكرية تماماً، إذ تشدد الاستراتيجية على ضرورة ردع أي محاولة صينية لفرض أمر واقع جديد بشأن تايوان، باعتبار أن السيطرة على هذه المناطق تعني عملياً قدرة بكين على خنق التجارة العالمية.
وبشأن الدول الأوروبية، تعتمد الاستراتيجية لغة هجومية غير معتادة تجاه حلفاء تقليديين، فهي تصف القارة بأنها تعاني “شيخوخة ديموغرافية” و”أزمة هوية”، كما تتحدث الوثيقة عن احتمال “محو حضاري” إذا استمرت سياسات استقبال اللاجئين وتراكم القيود التنظيمية على الاقتصاد، وكذلك تدعو الأوروبيين إلى تحمل المسؤولية الرئيسية عن دفاعهم، ورفع الإنفاق العسكري إلى مستويات أعلى بكثير مما هو متعارف عليه في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، كما تشكك في جدوى التوسع المستمر للحلف، وفي اعتباره تحالفاً يمكن توسيعه بلا سقف جغرافي أو سياسي.
وفي مقابل كل ذلك، تضع الاستراتيجية الأمريكية الجديدة نصف الكرة الغربي، وتحديداً أمريكا اللاتينية والكاريبي، في مرتبة متقدمة على بقية الأقاليم، معتبرةً أن القرب الجغرافي يجعل الاستقرار في هذه المنطقة امتداداً مباشراً للأمن القومي الأمريكي.
ترحيب روسي
الموقف الروسي من الاستراتيجية الأمريكية الجديدة جاء مرحباً، حيث أكد المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، اليوم في تصريحات لقناة روسيا، أن التعديلات التي أُدخلت على هذه الاستراتيجية تتوافق إلى حد كبير مع رؤية موسكو، مشيراً إلى أنها قد تصبح ضمانة في حل الصراع الأوكراني.
وقال بيسكوف: “أعتقد أن التعديلات التي نشهدها تتوافق إلى حد كبير مع رؤيتنا”، منوهاً إلى أن وجود صياغات تدعو إلى الحوار في استراتيجية الأمن القومي الأمريكية المحدّثة أمر يبعث على الارتياح، مضيفاً، “هناك صياغات ضد المواجهة، وفي اتجاه الحوار وبناء علاقات طيبة.. وهذا بالطبع أمر مفرح”.
وتابع بيسكوف: “نأمل أن يكون هذا تعهداً متواضعاً بأن نتمكن، على الأقل، من مواصلة عملنا المشترك بشكل بنّاء لإيجاد تسوية سلمية في أوكرانيا”.
انتقاد صيني
الصين من جانبها، انتقدت ما ورد بخصوص تايوان في الاستراتيجية الأمريكية، وقال لين جيان، المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية: إن الصين تحث الولايات المتحدة على اكتساب فهم واضح للطبيعة شديدة الحساسية لمسألة تايوان، وعلى التنفيذ الكامل للالتزامات التي قدمها قادة الولايات المتحدة.
وصرّح لين بأن أي إشارة لدعم الانفصال الداعي إلى ما يسمى “استقلال تايوان”، تنتهك بشكل جسيم مبدأ “صين واحدة” والبيانات المشتركة الثلاثة بين الصين والولايات المتحدة، وترسل إشارة خاطئة على نحو خطير إلى القوى الانفصالية، مؤكداً أن “الصين تعارض هذا بحزم”.
رفض أوروبي للاتهامات الأمريكية
الأوروبيون من جانبهم، تعاملوا بحذر مع هذه الاستراتيجية الأمريكية، حيث رفض وزير الخارجية الألماني يوهان فاديفول بعض عناصر استراتيجية الأمن القومي الأمريكية التي طرحها البيت الأبيض، وأكد “أن برلين ليست بحاجة إلى محاضرات خارجية حول حرية التعبير أو تنظيم المجتمعات الديمقراطية”، مشدداً في الوقت نفسه على “أن الولايات المتحدة كانت وستظل أهم حليف لنا في حلف الناتو، لكن هذا التحالف يركّز على قضايا السياسة الأمنية فقط، ومسائل حرية التعبير أو تنظيم المجتمعات الحرة ليست من اختصاص التحالف عندما يتعلق الأمر بألمانيا”.
كما رفضت المفوضية الأوروبية بشدة الاتهامات التي وجهتها الاستراتيجية الأمريكية للاتحاد الأوروبي، على لسان المتحدثة الرئيسية باسمها، باولا بينهو، فيما سعت مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي كايا كالاس، إلى التقليل من حدة التوترات مع الولايات المتحدة في أعقاب نشر هذه الاستراتيجية، وقالت في منتدى الدوحة أمس: “يجب أن نكون أكثر ثقة بأنفسنا، وأن الولايات المتحدة لا تزال حليفتنا الأكبر، أعتقد أننا لم نتفق دائماً بشأن مختلف المواضيع، ولكن المبدأ العام لا يزال قائماً، نحن أكبر الحلفاء، وعلينا أن نبقى متحدين”.
من جانبه، اعتبر المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، في تقرير نشره اليوم، أن العلاقات عبر الأطلسي تبدو متجهة نحو مرحلة أكثر تعقيداً وتقلباً خلال السنوات المقبلة، فالنبرة الانتقادية الحادة من واشنطن تجاه أوروبا، والتشكيك في قوة اقتصاداتها وجيوشها، واتهام الاتحاد الأوروبي بتقويض السيادة والحريات، تمثل جميعها عناصر تؤسس لتحوّل جوهري في إدراك واشنطن لدورها الدولي، ولطبيعة شراكتها مع القارة الأوروبية، ويعكس هذا التحوّل رغبة الإدارة الأمريكية في إعادة صياغة النظام الدولي بما يضمن مصالحها المباشرة، حتى وإن جاء ذلك على حساب أسس التعاون التقليدي مع الحلفاء.