دمشق-سانا
تشهد العلاقات بين الصين واليابان توتراً متزايداً في الآونة الأخيرة، حيث أصدرت كل من العاصمتين تحذيرات متبادلة لمواطنيها، في البلد الآخر، في مؤشر واضح على تصاعد المخاوف الأمنية والسياسية.
اليابان حذّرت مواطنيها المتواجدين في الصين من احتمالات وقوع اضطرابات نتيجة تصريحات سياسية أطلقها مسؤولون يابانيون حول تايوان، داعية إلى توخي الحذر وتجنب الأماكن المكتظة، وذلك كرد واضح على التحذيرات التي أصدرتها الصين قبل يومين لطلابها الموجودين في اليابان أو الراغبين بالدراسة فيها، ودعتهم فيها إلى “تقييم المخاطر بعناية واتخاذ الاحتياطات اللازمة”، في ظل ما وصفته بـ “تدهور البيئة الأمنية وارتفاع الجرائم التي تستهدف الصينيين هناك”.
وتشكل هذه التحذيرات المتبادلة، جزءاً من تداعيات أكبر لصراع النفوذ الاستراتيجي في شرق آسيا، حيث تتشابك القضايا الاقتصادية والسياسية والعسكرية، بما يجعل كل تصريح رسمي أو حركة دبلوماسية، خطوة دقيقة يمكن أن تؤثر على الأمن والاستقرار في المنطقة، ومن هذا المنطلق، يعكس التوتر الحالي بين الصين واليابان، ليس فقط خلافاً حول تايوان، بل أيضاً اختباراً لقدرة كلا الطرفين على إدارة حساسية الملف الإقليمي مع حماية المصالح على الأرض.
وجاءت تصريحات رئيسة الوزراء اليابانية التي اعتبرت فيها أن “الهجمات المسلحة على تايوان قد تبرر إرسال قوات يابانية للدفاع عنها”، لتحرك الساكن في علاقة البلدين، وتثير غضباً غير مسبوق لدى الصين التي تعتبر جزيرة تايوان “جزءاً لا يتجزأ من أراضيها”.
مؤشر جديد على تدهور العلاقات
تتعامل بكين مع الموقف الياباني الأخير حيال تايوان بوصفه توسّعاً عسكرياً غير مبرر، ضمن استراتيجية أمنية جديدة لطوكيو تتيح لها الانخراط في عمليات خارج حدودها، خلافاً للتقاليد السلمية التي التزمت بها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وترى الصين أن اليابان تستغل التوتر حول تايوان لعودة تدريجية إلى تموضع عسكري أوسع، مدعوم بغطاء من التحالف مع الولايات المتحدة، فيما تقول طوكيو إن أي تصعيد في مضيق تايوان سيؤثر مباشرة على أمنها القومي، كون المنطقة تمثل ممراً حيوياً للتجارة اليابانية ومرتكزاً لوجودها العسكري في أوكيناوا والجزر الجنوبية.
محطات مفصلية في العلاقات الصينية اليابانية
مرت العلاقات بين الصين واليابان بمنعطفات عديدة، شكل بعضها حدثاً مفصلياً وحاسماً في تعريف العلاقة بين البلدين، وتعد الحرب بين البلدين بين عامي 1937 و1945، بمثابة الجذور التي أنتجت مرحلة طويلة من الصراع والتنافس، وما تزال الذاكرة الصينية محمّلة بما تصفه ب”مجازر الاحتلال الياباني”، خاصة “مجزرة نانجينغ” التي نفذها الجيش الامبراطوري الياباني وأودت بحياة عشرات الآلاف من المدنيين الصينيين، هذا الإرث التاريخي يظلّ حاضراً بقوة في كل خلاف سياسي أو عسكري جديد بين البلدين.
وشهد العام 1972 نقطة تحول لافتة في العلاقة بين البلدين الجارين، حيث شهد ذلك العام تطبيعاً للعلاقات بينهما، في خطوة مهمة أنهت عقوداً من القطيعة، لكن ملفات التاريخ والنزاعات البحرية بقيت حاضرة لتفرض نفسها مجدداً، ويعود التوتر في أي لحظة.
وأيضا يعدّ النزاع على جزر دياويو/سينكاكو أحد أخطر عناصر التوتر البحري بين البلدين، ومازال ماثلاً، فقد شهد العقد الأخير تكراراً للاحتكاكات بين خفر السواحل والسفن العسكرية، وسط اتهامات متبادلة بين الدولتين باختراق المياه الإقليمية.
تحالف ياباني أميركي لاحتواء النفوذ الصيني
تعتمد اليابان في استراتيجيتها الدفاعية على تحالفها الأمني مع الولايات المتحدة، حيث يتمركز على أراضيها أكثر من 50 ألف جندي أميركي، وهو أكبر وجود عسكري أميركي خارج البلاد، وترى الصين أن هذا التحالف محاولة لتطويقها عسكرياً، ما دفعها إلى تعزيز قدراتها البحرية ببناء حاملات طائرات ومدمرات وأنظمة صواريخ وأساطيل مسيّرة، الأمر الذي أثار قلق اليابان من أن التفوق البحري الصيني في بحر الصين الشرقي سيهدد حرية الملاحة ومصالحها الاقتصادية.
ملف تايوان النقطة الأكثر حساسية
ويعد ملف تايوان اليوم مركز ثقل التوتر بين البلدين، فالصين ترى أن أي دعم عسكري ياباني للجزيرة يدخل مباشرة في نطاق “تهديد السيادة”، بينما تستند اليابان إلى تفسير جديد لدستورها يتيح “الردع المشترك”، ما يعني احتمال مشاركة قواتها في نزاعات قريبة من أراضيها.
وأدى تزايد الاحتكاكات في السنوات الأخيرة إلى تكثيف الجانبين من وجودهما العسكري في بحر الصين الشرقي الذي شهد تدريبات بحرية وجوية مشتركة، وأجرت اليابان أكبر مناوراتها العسكرية منذ 30 عاماً، بمشاركة أميركية وبريطانية، فيما نفذت الصين تدريبات بالذخيرة الحية في محيط تايوان وجزر دياويو/سينكاكو.
وبموازاة ذلك استعر السباق الصاروخي، ولا سيما الصواريخ متوسطة المدى، إذ تعمل اليابان حالياً على نشر صواريخ بعيدة المدى في جزرها الجنوبية، وهو تحول نوعي في السياسة العسكرية لليابان، وفي المقابل، عززت الصين مواقع صواريخها الساحلية الموجهة نحو بحر الصين الشرقي.
واتسعت دائرة ما يمكن اعتباره سباقا للتسلح ليشمل جيل الجديد من الطائرات اليابانية والصينية، ففي الوقت الذي اتجهت فيه اليابان لاعتماد مقاتلة الشبح اليابانية البريطانية، طورت الصين المقاتلة “J-20” ووسّعت انتشارها في قواعد قريبة من الساحل الشرقي.
وبلغ التنافس على الممرات البحرية حدا خطيرا بين الدولتين، ولا سيما في بحر الصين الشرقي الذي يشكل شرياناً استراتيجياً للطرفين، ممر للطاقة بالنسبة لليابان ولـ 90 بالمئة من تجارتها، وفي الوقت ذاته يمثل بوابة للأساطيل البحرية الصينية نحو المحيط الهادئ.
شرق آسيا على عتبة مرحلة أكثر حساسية
تقف العلاقات الصينية اليابانية اليوم أمام مفترق طرق جديد، إذ تتشابك الملفات العسكرية والأمنية مع الاقتصاد والتاريخ والجغرافيا السياسية، ومع تزايد الحديث عن احتمالات التصعيد حول تايوان وتحول اليابان نحو دور عسكري أكثر وضوحاً، يبدو أن المنطقة تتجه نحو إعادة رسم معادلة الردع والتوازن.
وفي ظل هذا المناخ المضطرب تبدو التحذيرات المتبادلة وسخونة التخاطب الرسمي ليس مجرد إجراءات روتينية، بل جزءاً من هندسة خطاب سياسي أمني جديد يعكس واقعاً فيه الكثير من التوتر في واحدة من أهم مناطق العالم حساسيةً وأشدها تأثراً بأي تغيير في موازين القوى.