عواصم-سانا
اجتمع وزراء دفاع خمس دول أوروبية أعضاء في الناتو، أمس في العاصمة الألمانية برلين، وتعهدوا بتعزيز التعاون لمواجهة تهديدات “الحرب الهجينة” التي باتت تهدد استقرار القارة، من المسيّرات التي تخترق الأجواء إلى الهجمات السيبرانية وحملات التضليل الإعلامي.
وأعلن وزراء دفاع “مجموعة الخمس الأوروبية”، التي تضم ألمانيا، فرنسا، المملكة المتحدة، إيطاليا، وبولندا، إلى جانب ممثلة الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية كايا كالاس، عن خطة لتعزيز التعاون لمواجهة “التهديدات الهجينة”، واستكشاف تدابير دفاعية مثل أنظمة مضادة للمسيّرات وتعزيز تبادل المعلومات بين الحلفاء الأوروبيين.
وتأتي هذه الخطط في أعقاب هجمات سيبرانية، واختراق مسيرات للأجواء الأوروبية، حيث رُصدت مؤخراً مسيّرات في أجواء مطارات ومواقع عسكرية حساسة في أوروبا، وخاصة في بلجيكا والدنمارك وألمانيا والنرويج وبولندا، ما أثار مخاوف أمنية واسعة.
الحرب الهجينة: التعريف والأدوات
في ظل الغموض وتعدد الأدوات، تتشكل ملامح حرب لا تشبه ما عرفه العالم في تاريخه الحديث، حرب بلا جبهات واضحة ولا إعلان رسمياً، لكنها تترك بصمات في الفضاء والبحر والإنترنت والأسواق المالية وحتى في العقول.
وتمثل الحرب الهجينة (Hybrid Warfare) أحد أكثر المفاهيم تطوراً في العقيدة العسكرية الحديثة، إذ تعكس التحول من أنماط الحروب التقليدية التي كانت تقوم على المواجهة العسكرية المباشرة بين الجيوش، إلى أنماط أكثر تعقيداً تمزج بين الأدوات العسكرية وغير العسكرية، النظامية وغير النظامية، لتحقيق أهداف استراتيجية دون إعلان حرب رسمية.
ووفقاً للتعريفات الأكاديمية والعسكرية، تتضمن الحرب الهجينة مزيجاً من العمليات السيبرانية، والهجمات الدعائية، والضغط الاقتصادي، والتهديدات النووية، واستخدام الوكلاء المحليين والميليشيات، بهدف إرباك الخصم واستنزافه سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
وبذلك تكون الحرب الهجينة، هي الحرب التي تتداخل فيها الوسائل العسكرية مع الاقتصادية والسياسية والإعلامية، لتخلق مزيجاً يصعب تحديد حدوده أو حتى اتهام طرف محدد بالوقوف وراءه، فيما يقول الخبراء: إن أبرز ما يميز الحرب الهجينة هو انعدام الوضوح بين السلم والحرب، فلا صوت رصاص واضحاً، ولكن الملاحظ هو تحركات غامضة توحي بأن المعركة جارية في الخفاء.
هجمات سيبرانية
الهجمات السيبرانية أصبحت سلاحاً آخر في ترسانة الحرب الهجينة، ووفق تقارير لحلف شمال الأطلسي (الناتو) شهد العام الجاري تصاعد هذه الهجمات بنسبة 25 بالمئة مقارنة بالعام السابق، مستهدفة قطاعات مالية وتكنولوجية حيوية في دول أوروبا الشرقية.
وبحسب مراقبين أصبحت “حرب المعلومات” أحد الميادين الأكثر حساسية، حيث تتقاطع فيها الجغرافيا الرقمية مع الأمن القومي، وتتحول البيانات إلى سلاح استراتيجي يعادل في تأثيره التفوق العسكري التقليدي.
كما تحوّل الذكاء الاصطناعي إلى أحد أبرز أدوات هذه الحرب، وأصبح يشكّل سلاحاً استراتيجياً في الصراع بين مختلف الجهات، حيث تلعب تقنيات تحليل البيانات والصور الملتقطة بالأقمار الصناعية دوراً جوهرياً في تحديد المواقع وتقييم التحركات الميدانية للجيوش المعادية بدقة غير مسبوقة.
حروب التضليل الإعلامي
وفي موازاة ذلك تتصاعد حرب المعلومات، حيث تغزو المنصات الرقمية موجات من الأخبار المضللة، تتلاعب بالعقول وتؤثر على الرأي العام، فتخلق فوضى ذهنية تعادل أثر الضربات العسكرية، وهي جبهة غير مرئية لكنها فعالة في إعادة تشكيل الوعي العام وإرباك الخصوم دون إطلاق رصاصة واحدة.
ومؤخراً باتت تستخدم وبشكل واضح “حرب السرديات” المدعومة بآلة إعلامية ضخمة، هذه الحرب الخطابية التي تتحوّل إلى أداة تعبئة نفسية هائلة، تتجاوز حدود الجغرافيا، لتصل إلى الرأي العام العالمي عبر شبكات التواصل والمنصات الرقمية.
وأصبحت المنصات مثل X (تويتر سابقاً) وتلغرام وتيك توك ساحات مواجهة مفتوحة، حيث تنتشر المقاطع المفبركة والتقارير المزيفة، في إطار عمليات منظمة لتشويه الحقائق وتوجيه الإدراك الجمعي، الأمر الذي يظهر أن الحرب الإعلامية تحول الصراع من مواجهة تدور على الأرض، إلى سباق نحو التحكم بالعقول، فيما أصبح التحكم في السردية وتوجيهها أحد أخطر أسلحة القرن الحادي والعشرين، إذ يمكن لخبر مزيف أو فيديو معدّل أن يغيّر موازين الدعم الشعبي والسياسي للحرب أكثر من قذيفة مدفعية.
صراعات متفاقمة في عالم مضطرب
يمكن القول إن الحرب الهجينة بحسب ما هو متفق عليه، صراع متعدد الوجوه، لا يمكن حصره في معركة أو جبهة، ولا يقاس بحجم الدمار المادي فقط، بل بمدى اختراقه للأنظمة والعقول، وهي حرب بلا إعلان ولا هدنة، حيث يصبح كل مجال – من الفضاء إلى الاقتصاد، ومن السيبرانية إلى الإعلام – ساحة مواجهة محتملة في عالم يزداد تشابكاً وغموضاً.
وتزداد شراسة هذه الحرب وغيرها في ظل الأزمات التي يشهدها العالم، وحالة الاضطراب التي يعيشها في ظل الصراعات المتفاقمة سعياً وراء النفوذ، والاستيلاء على الثروات، والتحكم بالعقول لخدمة أغراض وأهداف خاصة.