دمشق-سانا
يشهد العالم تحولاً متسارعاً نحو الاقتصاد الأخضر، الذي لم يعد مجرد مفهوم بيئي نظري، بل أصبح ركيزة أساسية في سياسات الدول واستراتيجيات الشركات الكبرى، فقد أثبتت التجارب أن النمو الاقتصادي يمكن أن يسير جنباً إلى جنب مع حماية البيئة، من خلال التوسع في استخدام الطاقة النظيفة وتطبيق مبادئ الاقتصاد الدائري، القائم على إعادة استخدام الموارد واستثمارها بكفاءة، إضافة إلى توجيه الاستثمارات نحو مشاريع مستدامة توفر فرص عمل جديدة وتراعي الكلفة البيئية والجدوى الاقتصادية.
ويُعرَّف الاقتصاد الأخضر بأنه نموذج للتنمية، يهدف إلى تحقيق النمو والرفاه مع تقليل الأضرار البيئية وضمان استدامة الموارد للأجيال القادمة، عبر جعل النشاط الاقتصادي أقل تلويثاً وأكثر كفاءة في استخدام الطاقة والمواد.
استجابة الأسواق المالية وتوسع الاستثمار الأخضر
في 17 أيلول 2024، أصدر ملتقى المستثمرين العالمي بياناً دعا فيه الحكومات إلى تبني سياسات واضحة ومستقرة، تُمكّن المستثمرين من ضخ الأموال بثقة في المشاريع الخضراء لمواجهة أزمة المناخ، وقد أظهر ذلك تغيراً في معادلة المخاطر والعوائد، وجعل المشاريع منخفضة الكربون أكثر جاذبية للتمويل، في مؤشر على رغبة القطاع المالي بدعم التحول نحو اقتصاد منخفض الانبعاثات.
الالتزامات الدولية وتقدم العمل المناخي
على المستوى الدولي
رسخ مؤتمر الأطراف “كوب 28” في أيلول 2023 مرحلة جديدة من الالتزام العالمي، حيث اتُّفق على تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري وتوسيع تمويل الانتقال العادل ودعم خفض الانبعاثات، كما شهد مؤتمر “كوب 30” في مدينة بيليم البرازيلية الشهر الماضي اتفاقاً على زيادة تدفقات التمويل المناخي إلى 1.3 تريليون دولار سنوياً بحلول 2035، وإطلاق إطار عالمي للمساءلة عن التمويل المناخي، بما يعزز الشفافية والمصداقية والثقة، ويؤشر إلى انتقال المجتمع الدولي من التعهدات المجزأة إلى دعم مالي أكثر تماسكاً وعدالة.
دعوات لتسريع التمويل والإجراءات
الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش شدد خلال قمة بيليم، على ضرورة مضاعفة تمويل التكيف ثلاث مرات بحلول 2030 وزيادة رأس مال صندوق الخسائر والأضرار، مؤكداً أن دعم المجتمعات في مواجهة تغير المناخ بات أمراً ملحاً، وقال: “الأمر يتعلق بالبقاء والعدالة وحماية الثقافات والأوطان التي تدعم النظم البيئية الحيوية لكوكبنا”.
الاستراتيجية الأوروبية ونماذج الاقتصاد الحيوي
وفي تشرين الثاني الماضي، أعلنت المفوضية الأوروبية عن استراتيجيتها الجديدة للاقتصاد الحيوي، الهادفة إلى دمج الابتكار بالاستدامة لتعزيز مرونة سلاسل الإمداد وتحفيز النمو، وقدمت هذه الاستراتيجية نموذجاً عملياً للسياسات الموجهة القادرة على خلق أسواق جديدة للمنتجات والخدمات الخضراء، رغم بروز نقاشات سياسية حول تشريعات مثل “المطالبات الخضراء”، نتيجة الحاجة لتحقيق توازن بين الطموح البيئي والقبول السياسي.
مؤشرات إيجابية وتحذيرات موازية
وفي السياق ذاته، عبّر أمين سر الأمم المتحدة للمناخ سيمون ستيل عن تفاؤل حذر، مشيراً إلى التوسع في سوق السيارات الكهربائية وزيادة الصادرات منخفضة الكربون وتدفق الاستثمارات في الطاقة النظيفة، لكنه أكد أن المسار الحالي لا يزال بعيداً عن تحقيق أهداف اتفاق باريس ما لم تتسارع الإجراءات بشكل ملموس.
تحديات قائمة
ورغم الزخم الدولي، فإن تطبيقات الاقتصاد الأخضر تواجه تحديات كبيرة، أبرزها ارتفاع التكاليف الأولية للمشاريع النظيفة، وحاجة الأسواق إلى آليات تمويل مبتكرة، إضافة إلى ضرورة تأهيل القوى العاملة وتوفير برامج تدريب لضمان عدم فقدان الوظائف خلال التحول الأخضر، كما تبرز أهمية وجود تشريعات عادلة وشفافة للحد من الادعاءات البيئية المضللة والحفاظ على تنافسية الصناعات المحلية.
في ضوء هذه المعطيات الدولية المتصاعدة، بدءاً من تأكيدات المستثمرين العالميين وصولاً إلى مخرجات المؤتمرات الأممية والأوروبية، تبرز الحاجة إلى خطوات حاسمة وغير مسبوقة لتسريع التخفيف من آثار تغير المناخ والتكيف معه، ولا سيما في الدول النامية، بما يعزز فرص بناء اقتصاد أكثر مرونة وعدالة واستدامة، قادر على مواجهة التحديات البيئية المستقبلية.