دمشق-سانا
تمثل لغة الإشارة جسراً إنسانياً يربط الصم ببقية فئات المجتمع، فهي ليست مجرد حركات عابرة، بل لغة متكاملة تحمل ثقافة وهوية، وبفضلها تمكن العديد من السوريين الصم من تحويل التحديات إلى قصص نجاح تلهم الأجيال، وتؤكد أن الدمج المجتمعي حق للجميع لا ينتقص.
كتاب لمحو أمية الأطفال الصم
أحمد البطين، الذي نشأ في أسرة صماء، تجاوز الصعوبات بعزيمة لافتة، فتفوّق في دراسته حتى تخرج من كلية التربية بامتياز، ويتابع اليوم دراساته العليا في مجال التربية الخاصة، ويطمح إلى متابعة الدراسة لنيل درجة الدكتوراة.

لم يكتف البطين بالعلم، بل أصبح مدرباً للغة الإشارة وصعوبات التعلم، وشارك مع أحد زملائه خريج قسم المكتبات والمعلومات في تأليف كتاب موجه للأطفال الصم من عمر 3 إلى 5 سنوات، يعتمد الصور والوسائل البصرية لتعليم الحروف والمفردات، بهدف تسهيل دمج الطفل الأصم في محيطه منذ سنواته الأولى، وفق ما ترجمته إلى لغة الإشارة المترجمة أناهيدا طنطا التي رافقت جميع شخصيات التقرير ونقلت قصصهم.
تطبيق “صوت الإشارة” لمساعدة الصم
من جانبها، استطاعت آلاء سقباني أن تحول حرمانها من دراسة معهد التعويضات السنية بسبب إعاقتها السمعية إلى فرصة جديدة كون هذا التخصص يتطلب متابعة مباشرة في المختبرات الصوتية والتجارب العملية، ورغم ذلك لم تتراجع، واختارت طريقاً آخر لتكمل تعليمها، وتخرجت لتصبح معلمة للأطفال الصم.
ولم تقف سقباني عند حدود التعليم، بل ابتكرت مع زملاء لها تطبيقاً تقنياً باسم “صوت الإشارة”، يتيح للصم التواصل الفوري مع الأطباء والمرافق الصحية في الحالات الإسعافية، كما شاركت في مشروع لترجمة تاريخ المتاحف السورية، لتثبت أن فقدان السمع لا يمنع من صناعة الأثر.
جمعية “لغتي إشارتي” تجربة رائدة
أما هدى محمد، التي فقدت سمعها في سن الثالثة إثر التهاب السحايا، فقد أصبحت أول طالبة صماء في سوريا تنال درجة الماجستير في علم الاجتماع.
وأسست محمد جمعية “لغتي إشارتي” لتعليم الأهالي لغة الإشارة، لمساعدتهم على التواصل مع أبنائهم، انطلاقاً من إيمانها بدور الأسرة في كسر عزلة الصم وبناء جسور التواصل معهم، ولتثبت أن الإعاقة الحقيقية ليست في الجسد، بل في غياب الإصرار والإرادة.
أناهيدا طنطا.. ثلاثة عقود في خدمة الصم
المترجمة أناهيدا طنطا، بدأت رحلتها مع لغة الإشارة منذ عام 1991، عندما التقت بزميلات صم في وزارة الشؤون الاجتماعية، ليتحول الفضول لديها إلى شغف لتعلم لغة الإشارة، حيث كرست أكثر من 35 عاماً من حياتها في خدمة هذه الفئة، وفق ما ذكرت لمراسلة سانا.

وبينت طنطا أن الصم لم يعلموها لغة الإشارة فقط، بل علموها الصبر والوفاء والصدق، وجعلوها جزءاً من عائلاتهم، حيث لم تنظر يوماً إلى نفسها كمترجمة، بل كابنة لهذا العالم، تحمل همومه وتحتفل بفرحه، وتعمل بلا كلل على مد جسور التفاهم بين الصم والناطقين.
القاموس الإشاري السوري.. اعتراف رسمي بلغة الحياة
وأوضحت طنطا أنه في عام 2008 اعتمدت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بالتعاون مع الاتحاد العربي للهيئات العاملة مع الصم القاموس الإشاري السوري كمرجع رسمي وموحد، وهو ليس مجرد كتاب لغوي، بل خطوة إستراتيجية نحو الاعتراف الكامل بلغة الإشارة كلغة قائمة بذاتها.

وبينت طنطا أن القاموس حمل بعداً تعليمياً حين وفر للأسر والمعلمين أداة عملية لتعليم الأبناء أساسيات التواصل، وبعداً ثقافياً حين حفظ إشارات محلية مرتبطة بالبيئة السورية والعادات اليومية، وبعداً اجتماعياً لأنه كسر حاجز العزلة وساعد على دمج الصم في المدارس وسوق العمل.
وتابعت طنطا: إن القاموس حمل رمزية كبيرة، باعتباره وثيقة وطنية تمنح الصم هويتهم اللغوية، وتؤكد أن لغتهم ليست ترفاً أو وسيلة ثانوية، بل حق أساسي وركيزة من ركائز الانتماء والاندماج.
ويحتفل العالم في 23 أيلول من كل عام باليوم العالمي للغة الإشارة، الذي أقرّته الأمم المتحدة عام 2017، للتذكير بأهمية تعزيز الوعي المجتمعي بدور هذه اللغة في تحقيق الدمج والمساواة للصم في المجتمع، والتأكيد على حقهم الإنساني في التواصل والتعليم والمشاركة.