حماة-سانا
في قلب سهول منطقة الغاب، حيث تختلط روائح الأرض الرطبة بالمروج الخضراء، يقف “جاموس الغاب” شامخاً كشاهد على تاريخ طويل يمتد لألفي عام، لكن اليوم لم يتبقَّ من هذا الكائن الفريد سوى 400 رأس، تتوزع على أربع قرى فقط، في معركة وجودية ضد الانقراض.
أدرجت منظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو) هذا الحيوان عام 2000 على قائمة الكائنات المهددة بالانقراض، بسبب تدهور المراعي، وتهجير الأهالي، وضعف العائد الاقتصادي، ومع انخفاض أعداده من 2200 رأس عام 2011 إلى 500 رأس فقط في 2024، أصبحت جهود إنقاذه مهمة وطنية عاجلة.
محطة شطحة.. قلعة الأمل الأخيرة
في هذا المشهد القاتم، تبرز “محطة بحوث شطحة” التي أنشئت عام 1996 لحماية الجاموس السوري، وتضم اليوم 160 رأساً، وتقود أبحاثاً علمية لحفظ السلالة وتحسين إنتاجيتها.
ويقول المهندس نادر درباس، رئيس المحطة: “نحن نحارب الزمن لإنقاذ إرث بيولوجي فريد، ندرس خصائصه الشكلية والتناسلية، ونطوّر سلالات جديدة لإنتاج الحليب، لكن التحديات كبيرة”.
أصناف الجاموس السوري
يشرح درباس أن سوريا تعرف نوعين من الجاموس: الأول جاموس المستنقعات: يعيش في الغاب، مشابهاً لسلالة غرب الأناضول، ويمتاز بكونه “ثنائي الغرض” (للحم والحليب). والثاني جاموس الأنهار: يتواجد في الجزيرة السورية، وأصله من العراق، لكن كليهما يواجه خطر الاختفاء بسبب تراجع المراعي وندرة الدعم.
جهود بيطرية.. لقاحات ضد المصير المجهول
من جهته، أكد الدكتور مازن يوسف، رئيس الشعبة البيطرية في محطة بحوث شطحة، أنهم يقدمون لقاحات ضد أمراض مثل الحمى القلاعية والجدري، وقال: “نكافح يومياً لإنقاذ كل رأس، التهاب الضرع والأمعاء يهدد القطيع، ونحتاج إلى أدوية أكثر فعالية”.
وأشار المربون إلى أن تهجير قرى مثل الكريم والتوينة والشريعة بسبب الأزمات، أدى إلى انهيار تربية الجاموس، وقال المربي سليمان سلوم من شطحة: “ورثنا هذه المهنة عن أجدادنا، لكننا على مشارف أن نخسرها، حيث خسرت 16 رأساً بسبب نقص الأدوية والأعلاف، ونطالب الدولة بدعمنا قبل فوات الأوان”.
نداء أخير.. إنقاذ الجاموس قبل أن يصبح ذكرى
وأوضح سليمان أن جاموس الغاب ليس مجرد حيوان، بل هو جزء من الهوية البيئية لسوريا، وإذا اختفى فستفقد البلاد ثروة جينية لا تعوض، مشيراً إلى أن ذلك يتطلب إنقاذه وتوزيع أعلاف مدعومة للمربين ومنح وقروض ميسرة لشراء أدوية وسلالات جديدة، مع تنفيذ حملات توعية بضرورة الحفاظ على هذا الإرث.
في مستنقعات الغاب، حيث تنحسر تربية الجاموس تدريجياً، يصبح السؤال ملحاً: هل سنسمح لهذا الكائن الصامد منذ ألفي عام أن يختفي بصمت؟ أم أننا سنكون الجيل الذي يكتب له فصلاً جديداً من البقاء؟




