دمشق-سانا
لم يكن الاعتراف الإسرائيلي بـ”أرض الصومال” دولة مستقلة مجرد إعلان سياسي عابر، بل خطوة تصعيدية خطيرة كسرت أحد أكثر المحظورات رسوخاً في النظام الدولي، المساس بوحدة الدول وسيادتها تحت أي ذريعة.
في منطقة مثقلة بالأزمات والتوازنات الهشّة، جاء هذا التحرك محاولة لإحياء مشاريع الانفصال خارج إطار الشرعية الدولية، عبر بوابة المصالح والانقسامات، ليفجّر موجة رفض إقليمية ودولية، وأكد أن وحدة الدول تبقى خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه، وأن تحويل الانقسامات الداخلية إلى أوراق سياسية لا يقود إلى استقرار، بل يفتح الباب أمام أزمات مجهولة المصير.
جذور القضية
تعود جذور ملف “أرض الصومال” إلى الحقبة الاستعمارية، حين خضع الشمال الغربي للحكم البريطاني، فيما سيطرت إيطاليا على الجنوب، ورغم هذا الانقسام الإداري، توحّد الشطران بعد الاستقلال عام 1960 في دولة صومالية واحدة، تجسيداً لطموح وطني جامع.
لكن انهيار الدولة المركزية مطلع التسعينيات أفسح المجال أمام إعلان انفصال أحادي الجانب عام 1991، ومنذ ذلك الحين، سعى الإقليم لتسويق نفسه ككيان “مستقر” مقارنة بالفوضى التي عصفت بالصومال، إلا أن هذا الواقع لم يمنحه شرعية قانونية دولية، وظل الانفصال خارج إطار الاعتراف، باعتباره مساساً بوحدة دولة ذات سيادة معترف بها دولياً.
الجغرافيا لا تُشترى
تكمن خطورة الملف في أن “أرض الصومال” ليست مجرد قضية داخلية، بل عقدة جغرافية استراتيجية تطل على خليج عدن وتتحكم بأحد مفاتيح باب المندب، أحد أهم الممرات البحرية العالمية، إذ يُعد ميناء بربرة القلب الاقتصادي للإقليم، ونقطة جذب للقوى الساعية إلى نفوذ بحري وأمني في البحر الأحمر.
هذه الجغرافيا جعلت الإقليم هدفاً لمحاولات توظيفه خارج سياقه الوطني، وتحويله من ملف داخلي إلى ورقة في صراع النفوذ الدولي.
الاعتراف الإسرائيلي… كسر المحظور
في الـ 26 من كانون الأول 2025، أعلنت إسرائيل اعترافها بـ”أرض الصومال”، في خطوة غير مسبوقة كسرت إجماعاً دولياً استمر أكثر من ثلاثة عقود.
لم يُقرأ الاعتراف كدعم لحق تقرير المصير، بل كتحرك سياسي – أمني ينسجم مع سعي الاحتلال لتوسيع حضوره في البحر الأحمر والقرن الأفريقي، وإحياء “عقيدة الأطراف” القائمة على بناء تحالفات مع كيانات هامشية خارج الإطار العربي، بما يخدم حسابات الأمن والممرات البحرية.
ويُخشى أن يؤدي هذا المسار إلى زعزعة الاستقرار في القرن الأفريقي، وتأجيج صراعات داخلية في الصومال، وتوفير بيئة خصبة للجماعات المتطرفة، فضلاً عن تحويل الإقليم إلى ساحة تنافس عسكري وأمني على حساب شعوب المنطقة.
رفض إقليمي ودولي
أثار الاعتراف الإسرائيلي عاصفة من الاستنكار، إذ سارعت دول ومنظمات إلى إدانته بوصفه انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، واعتداءً مباشراً على سيادة ووحدة جمهورية الصومال الفيدرالية.
سوريا أدانت بشدة الخطوة، واعتبرتها انتهاكاً خطيراً لمبادئ القانون الدولي ومساساً مباشراً بسيادة الصومال ووحدته الوطنية، فيما وصف الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود الاعتراف بـ”العدوان”، مؤكداً أن الصومال بلد واحد غير قابل للتجزئة أو التقسيم.
ورفضت فلسطين الاعتراف ورأت فيه تهديداً للأمن الإقليمي والعربي، مشيرةً إلى أن إسرائيل استخدمت اسم “أرض الصومال” كوجهة لتهجير فلسطينيين من غزة.
وأعلنت جامعة الدول العربية عقد اجتماع طارئ اليوم لتأكيد الرفض العربي، كما أعلن مجلس الأمن الدولي عقد جلسة طارئة يوم غد لمناقشة الخطوة الإسرائيلية، فيما شددت منظمة التعاون الإسلامي، والاتحاد الأفريقي، والاتحاد الأوروبي على رفض أي اعتراف أحادي يمس وحدة الصومال، بينما أكدت 21 دولة عربية وإسلامية في بيان مشترك، أن الاعتراف بكيانات انفصالية يشكّل سابقة خطيرة تهدد السلم والاستقرار الإقليميين.
وحدة الدول.. خط أحمر
تكمن خطورة الاعتراف الإسرائيلي في أنه لا يهدد وحدة الصومال فحسب، بل يضرب مبدأ أساسياً في النظام الدولي، احترام سيادة الدول ووحدة أراضيها، إذ إن فتح باب الاعتراف بكيانات انفصالية خارج الأطر القانونية يخلق سوابق قابلة للتكرار في مناطق أخرى تعاني نزاعات داخلية، ويحوّل الانقسامات المحلية إلى أدوات بيد قوى خارجية.
في ظل هذه التطورات، لم تعد قضية “أرض الصومال” شأناً داخلياً، بل اختبار لموقف المجتمع الدولي من وحدة الدول ورفض مشاريع التفتيت، وبين شمال يراهن على دعم خارجي، وجنوب يتمسك بوحدة لا تقبل القسمة، تبقى الحقيقة الثابتة أن الجغرافيا لا تصنع دولة، وأن الانفصال حين يُفرض من الخارج لا يجلب استقراراً، بل يفتح أبواب أزمات مؤجلة.