دمشق-سانا
في مرحلة دولية تتبدل فيها موازين القوى بسرعة غير مسبوقة، تتقدّم الصين والولايات المتحدة إلى واجهة المشهد العالمي كقطبين متنافسين على قيادة النظام الدولي الجديد، فالعلاقات بين العملاقين لم تعد تُختصر في تبادلٍ تجاري ضخم أو خلافات جمركية محدودة، بل باتت تمتد إلى الجغرافيا والسياسة والتكنولوجيا والفضاء وحتى الذكاء الاصطناعي الذي يبدو أنه سيحسم الصراع بين العملاقين إلى حد كبير، وذلك في سباق يعيد رسم خرائط النفوذ من شرق آسيا حتى المحيط الأطلسي.
العودة إلى المواجهة… خطاب أمريكي بنكهة الحرب الباردة
منذ عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في ولاية ثانية بدا واضحاً أن واشنطن اختارت تصعيد المواجهة مع بكين، متخلية عن لغة الاحتواء التي سادت خلال عهد الإدارات الأمريكية السابقة، فترامب الذي جعل من شعار “أمريكا أولاً” كقاعدة لسياسته الخارجية، يرى في الصين المنافس الأخطر على الزعامة الاقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة، ويتهمها باستغلال النظام التجاري العالمي لبناء تفوق صناعي وتقني يهدد التفوق الأمريكي.
البيت الأبيض أعاد فرض الرسوم الجمركية على السلع الصينية، وقيّد وصول الشركات الصينية إلى التقنيات الحساسة، كما صعّدت واشنطن من حضورها العسكري في بحر الصين الجنوبي ودعمت بشكلٍ غير مسبوق تايوان، الساعية إلى الخروج من تحت السقف الصيني، وإعلان نفسها دولة مستقلة وذات سيادة، الأمر الذي اعتبرته بكين تدخلاً سافراً في شؤونها الداخلية ومحاولة لجر المنطقة إلى حافة صدام مباشر.
بكين تردّ بسياسة “الصبر الطويل”
وفي مقابل تلك الاستفزازات الامريكية، تظهر الصين قدراً كبيراً من الثقة والهدوء، مستندة إلى اقتصاد بات يشكل أكثر من 18 بالمئة من الناتج العالمي، وإلى شبكة علاقات تجارية واستثمارية تمتد عبر القارات وتصل إلى عقر الدار الأمريكية، حيث أطلقت بكين سياسة استراتيجية محكمة للرد على العقوبات الأمريكية بخطوات مدروسة، توازن بين الرد الاقتصادي والتمسك بمبادئ السيادة، مع تعزيز حضورها في المنظمات الدولية ومبادرات التنمية العالمية، وفي مقدّمتها مبادرة الحزام والطريق التي تحولت إلى مشروع استراتيجي عابر للقارات.
وتبدو الصين حريصة على تقديم نفسها كقوة مسؤولة تسعى إلى التعاون بدلاً من المواجهة، بحسب ما يكرره المسؤولون الصينيون، لكنها في المقابل لا تتردد في تأكيد خطوطها الحمراء، خصوصاً فيما يتعلق بتايوان، التي تعتبرها جزءاً لا يتجزأ من أراضيها، وتحذر من أن أي محاولة أمريكية لتسليح الجزيرة أو دفعها نحو الانفصال “ستواجه بردّ قاس”.
الاقتصاد والتكنولوجيا… ميدان الحرب الجديدة
وفي خضم الصراع بين العملاقين لم تعد المنافسة بين واشنطن وبكين محصورة في الميدان العسكري أو السياسي، بل انتقلت إلى التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وسلاسل التوريد، وهي المجالات التي تحدّد شكل القوة في القرن الحادي والعشرين، فالشركات الصينية مثل “هواوي”و”بايت دانس” و”SMIC” أصبحت رموزاً لصعود تقني للتنين الصيني يقلق واشنطن، التي ترد بمنع بخطوات تصدير الرقائق المتقدمة إلى بكين، وتضغط على حلفائها في أوروبا وآسيا لتقليص التعاون التكنولوجي معها، وهي خطوات يعدها مراقبون تخفي مخاوف أمريكية حقيقية من التغول الصيني في هذا الميدان الجديد الذي يبدو أنه سيحسم نسبة كبيرة من المواجهة المستعرة بين الجانبين.
وبالمقابل، تواصل بكين ضخ الاستثمارات في الصناعات المتقدمة والطاقة النظيفة والسيارات الكهربائية، مستفيدة من نظام تخطيط مركزي طويل الأمد يتيح لها مواجهة الضغوط الأمريكية بمرونة وتدرج، مع توسيع التعاون مع دول الجنوب العالمي وإبرام اتفاقياتٍ استراتيجية مع العديد من الدول التي ليست في الضفة الأمريكية، ولا سيما روسيا وعدد من دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية.
من المحيط الهادئ إلى الشرق الأوسط… صراع النفوذ يتسع
وفي إطار سعيها للتغلب على الصين تسعى واشنطن إلى تطويقها عبر تعزيز تحالفاتها في منطقة الهند والمحيط الهادئ، وإحياء تجمع “الرباعية” الذي يضم اليابان والهند وأستراليا والولايات المتحدة، إلى جانب توسيع التعاون الأمني مع الفلبين وكوريا الجنوبية، ولكن في المقابل تتقدم الصين بهدوء في مجالات غير تقليدية، إذ تضخ استثمارات ضخمة في الموانئ والبنى التحتية بدول الشرق الأوسط وإفريقيا، وتقدم نفسها شريكاً اقتصادياً بديلاً عن الهيمنة الغربية.
وفي هذا السياق، تراقب واشنطن بقلق متزايد حضور الشركات الصينية في مشاريع الطاقة والاتصالات بالمنطقة العربية، معتبرة ذلك جزءاً من التمدد الناعم لبكين، بينما ترى الصين أن علاقاتها تقوم على المصالح المتبادلة واحترام السيادة، بعيداً عن ما تعده الإملاءات السياسية والعقوبات.
الإعلام والدبلوماسية… حرب ناعمة بلا مدافع
وإلى جانب الاقتصاد والسلاح، تخوض واشنطن وبكين حرباً ناعمة في مجالات الإعلام والرأي العام والدبلوماسية الدولية، فالإدارة الأمريكية تحاول إعادة صياغة صورتها في آسيا والعالم، وتتهم الصين بانتهاك حقوق الإنسان وقمع الحريات، بينما ترد بكين باتهام واشنطن بـ ازدواجية المعايير وبتسليح الخطاب الديمقراطي لخدمة مصالحها الاستراتيجية.
كما تسعى بكين من خلال وجودها في الأمم المتحدة ومجموعة العشرين ومنظمة التجارة العالمية، إلى تعزيز حضورها وتوسيع نفوذها في المؤسسات متعددة الأطراف، مقابل محاولات أمريكية لإعادة هيكلة تلك المؤسسات بما يخدم رؤيتها الاقتصادية الجديدة القائمة على “حماية المصالح الأمريكية أولاً”.
سباق التسلح ..والردع الاستراتيجي
وبالتوازي مع الصراع المحتدم في الاقتصاد والاعلام والدبلوماسية، يشهد التنافس بين واشنطن وبكين تصعيداً ملحوظاً في المجال العسكري، إذ تعمل الولايات المتحدة على تعزيز انتشارها البحري والجوي في المحيطين الهادئ والهندي، مع تكثيف التدريبات المشتركة مع حلفائها الإقليميين وتطوير أنظمة دفاعية متقدمة لمواجهة أي تهديد محتمل من الصين.
وفي المقابل، تتوسع بكين بسرعة في تطوير القدرات الصاروخية والبوارج الحربية والطائرات المقاتلة المتقدمة والغواصات النووية التقليدية، مع التركيز على استراتيجيات “المنطقة المحظورة” التي تهدف إلى منع أي تدخل أجنبي في مياهها الإقليمية أو حول تايوان.
ويظهر كلا الطرفين حرصاً على التوازن العسكري، مع توجيه رسائل قوية بأن أي مواجهة مباشرة ستكون باهظة الكلفة، ما يحوّل الصراع العسكري إلى سباق ردع استراتيجي قائم على الحذر المتبادل والقدرة التكنولوجية العالية.
العالم أمام لحظة توازن جديدة
ويجمع المراقبون على أن الصراع بين واشنطن وبكين لا يقتصر على نزاع حول التجارة أو التكنولوجيا، بل هو تنافس وجودي على قيادة النظام العالمي، فالصين تمثل نموذجاً بديلاً يقوم على التنمية والتخطيط والانضباط، بينما تتمسك الولايات المتحدة بنموذج السوق الحرة والهيمنة السياسية، ومع اشتداد التنافس، تتزايد الدعوات في الأوساط الدولية إلى تجنب الانقسام الحاد بين معسكرين جديدين، وإلى البحث عن صيغ تعاون تضمن الاستقرار العالمي.
ورغم حدة الخطاب الأمريكي في عهد ترامب، تدرك المؤسستان السياسية والعسكرية في واشنطن أن تكلفة الصدام مع الصين ستكون باهظة، وأن الاقتصاد العالمي بات مترابطاً بصورةٍ تمنع العودة إلى الانغلاق، فيما تدرك بكين أن صعودها السلمي يحتاج إلى تجنب المواجهة المباشرة، وإلى الاستفادة من التناقضات داخل المعسكر الغربي نفسه.
وبين الخطاب الحاد في واشنطن والسياسة الهادئة في بكين، يعيش العالم مرحلة إعادة تشكل لنظامه الدولي، تشكيل يجمع التناقضات، بحيث لم تعد الهيمنة الأمريكية مطلقة، ولا الصعود الصيني بلا قيود، فهي معركة النفوذ الكبرى بين الاقتصاد والسلاح، بين من يملك المال ومن يصنع المستقبل.
وحتى إشعارٍ آخر، سيبقى المشهد الدولي محكوماً بمعادلة دقيقة مفادها أن لا نصر كاملاً لواشنطن، ولا تراجع متقهقراً لبكين.