اللاذقية-سانا
في ذروة موسم قطاف الزيتون، تشهد معاصر محافظة اللاذقية حركةً دؤوبةً تروي قصة “الذهب الأخضر” الذي ظل لسنوات رمزاً للهوية الريفية ومصدر رزق أساسياً لآلاف العائلات في الساحل السوري.

غير أن لأهالي منطقة الحفة روايةً مختلفة، تحمل في طياتها قصة تمسك بأرض نزحوا عنها قسراً، ليعودوا إليها بعد التحرير ويُحيوها من جديد، رغم الصعوباتٍ الجسام التي تبدأ بالدمار الكبير، ولا تنتهي بقطع الأشجار والحرائق، مما جعل الموسم الحالي يحمل في طياته تحدياتٍ استثنائية انعكست على حجم الإنتاج.
وفي هذا السياق، كشفت رئيسة الوحدة الإرشادية في قرية المريج التابعة لمنطقة الحفة المهندسة بشرى سليمانو في تصريح لمراسل سانا، عن انخفاض كبير في الإنتاجية هذا العام، حيث قُدر الإنتاج بنحو 9 آلاف طن فقط، مقارنةً بما كان يزيد على 27 ألف طن في مواسم سابقة.
وأرجعت سليمانو هذا التراجع الحاد إلى عدة أسباب مترابطة، أهمها الغياب الطويل للمزارعين عن أراضيهم بسبب النزوح القسري، وتزامن عودتهم مع موسم القطاف مباشرة، ما أدى إلى غياب عمليات العناية الزراعية الأساسية للأشجار على مدار العام، إضافة إلى موجة الجفاف وانخفاض الهطولات المطرية، وتأثير الحرائق على مساحات خضراء كبيرة.

وفي إطار مساعيها لمواجهة هذه التحديات، أوضحت سليمانو أن مديرية الزراعة تعمل على خطط لإعادة إحياء القطاع، من خلال تشجيع إعادة زراعة الأراضي بغراس مناسبة ومتأقلمة مع البيئة، إلى جانب تأمين الأسمدة بأسعار مدروسة لتخفيف الأعباء على المزارعين، كما تُقدم المديرية حزمة من الإرشادات الزراعية حول كيفية مكافحة الآفات التي قد تتعرض لها أشجار الزيتون، سعياً لتحسين الإنتاجية في المواسم القادمة.
من جهته، أوضح المزارع عبد الواحد زكريا من قرية بكاس، أن إنتاجه انخفض هذا العام بشكل كبير جداً مقارنة بالعام الماضي، وأرجع السبب في ذلك إلى قلة تخديم الأشجار وإصابة بعضها بأمراض لم تتم مكافحتها بالشكل المطلوب، إضافة إلى قلة الأمطار التي لعبت عاملاً حاسماً أدى إلى “يباس الثمر” وانخفاض في المحصول.
جودت دحو، مزارع من قرية ترتياح، عاد إلى قريته بعد رحلة نزوح إلى لبنان امتدت لثماني سنوات، ليجد وضعاً قاسياً، قائلاً: “لدي 300 شجرة زيتون وكنت أجني عنها 20 تنكة زيت، لكن هذا العام لم أحصل سوى على تنكة واحدة نتيجة قطع الأشجار وتعرضها للحريق”، وكذلك هو الحال مع بستان التفاح الذي تبلغ مساحته خمسين دونماً، ومع ذلك، يبقى دحو متمسكاً بأرضه “فشجرة الزيتون مباركة وهو يرى أنها بمثابة الثروة له”.

أما إبراهيم سليمانو، صاحب معصرة زيتون في قرية ساقية الكرت، فيروي قصة صمود مختلفة، قائلاً: “نحن متواجدون في هذا المجال منذ تسعينيات القرن الماضي وتوارثناها أباً عن جد”.
واضطر سليمانو للنزوح إلى محافظة إدلب خلال الثورة، لينشئ معصرة جديدة، ورغم نجاحه هناك، كان سليمانو من أوائل العائدين بعد التحرير إلى قريته في جبل الأكراد، ليقوم بإعادة إعمار المعصرة المدمرة وتطويرها باستقدام آلات حديثة ألمانية تعمل على الطرد المركزي.
وأشار سليمانو إلى أنه بعد التهجير القسري بقيت المنطقة طيلة الأربع عشرة سنة الماضية من دون عناية، بالإضافة إلى الكثير من الأشجار التي تم قطعها وتأثر جزء منها بالحرائق التي تعرضت لها المنطقة، ما تسبب في انخفاض إنتاجية أشجار الزيتون.

وعبّر سليمانو عن سعادته بعودة الأهالي رغم التحديات، مشيراً إلى أن إقبال المزارعين على المعصرة “كبير جداً ويفوق التوقعات” رغم انخفاض الإنتاجية هذا العام، مع خدمة أكثر من 150مزارعاً يومياً.
ويجسد موسم الزيتون هذا العام قصة صمود لكثير من المزارعين وأصحاب المعاصر في وجه التحديات، سواء بسبب التهجير، أو جراء ارتفاع تكاليف الإنتاج والظروف المناخية، أملاً في الحفاظ على هذا الإرث الزراعي الذي لا يزال يشكل عصب الحياة للعديد من العائلات وعنواناً للعودة والتمسك بالأرض.




