دمشق-سانا
منذ انطلاقه في الأول من أيلول عام 1954، لم يكن معرض دمشق الدولي حدثاً تجارياً واقتصادياً فحسب، بل تحوّل إلى تظاهرة ثقافية وفنية كبرى تعكس هوية سوريا الحضارية ومكانتها كجسر تواصل بين الشرق والغرب، ومنصة يتقاطع فيها الأدب مع الموسيقا، والمسرح مع الفنون التشكيلية، والسينما مع الشعر، لتصوغ جميعها لوحة وطنية متكاملة، جعلت من دمشق مركز إشعاع ثقافي يتجدد مع كل دورة.
عمالقة الطرب والأنغام

سجل التاريخ الليالي الساحرة التي قدمتها على مسرح المعرض سيدة الغناء العربي أم كلثوم في عامي/١٩٥٧_١٩٥٨/، والحفلات الرومانسية للعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، وخاصةً عام/١٩٧٦/، ورحلة الطرب الأصيل مع نجاة الصغيرة، ووردة الجزائرية، ووديع الصافي، ونجاح سلام، وغيرهم من عمالقة الطرب.
رحلة السيدة فيروز في المعرض، بدأت منذ الدورة السادسة عام 1959، وهناك ألبوم كامل اسمه “شآميات” لقصائدها التي حيّت بها دمشق خلال حفلات المعرض، من مر بي، ويا شام عاد الصيف، وسائليني يا شآم.
كان حضور الأخوين رحباني والفرقة الشعبية اللبنانية مع السيدة فيروز، هو الحدث الفني الأكبر في المعرض، وعلى مسرحه الشهير قدمت أغلب مسرحيات عاصي ومنصور بدءاً من بياع الخواتم وانتهاءً ببيترا، وأمام جمهورها شدت مجموعة من المطربين اللبنانيين وهم في بداية مشوارهم أجمل الأغاني.
الموسيقا العالمية

الإضافة النوعية الأخرى التي عززت مكانة المعرض ثقافياً هي مشاركة فرق موسيقية كبيرة، أسهمت بإبراز التراث والتنوع الفني والإبداعي في سوريا والعالم، عبر تقديم فعاليات فنية متنوعة تثري تجربة الزوار، بدءاً من عرض أوبرا عايدة، والتي كانت أول عرض فني في تاريخ المعرض عام/1954/.
ثم سجلت عدة فرق بصمتها الفنية خلال جميع دورات المعرض ومنها، الفرقة اليوغسلافية للرقص الشعبي، فرقة إنانا للمسرح الراقص وأوركسترا أورنينا السوريتان، فرقة المنوعات البلغارية، فرقة باليه بولشوي، الفرقة الهندية للفنون الشعبية والبالغين وبينها السيرك الملكي الهندي، فرق رقص وفنون شعبية صينية وسوفيتية، أوركسترا القاهرة السيمفونية، أوركسترا بتسبورغ الأمريكية، وأوركسترا فيينا السيمفونية، وغيرها.
الفن التشكيلي ومعرض دمشق الدولي

منذ دورته الأولى عام 1954، شكّل معرض دمشق الدولي منصة حقيقية للحركة التشكيلية السورية، مع تكليف كبار الفنانين بتصميم الأجنحة والزوايا البصرية، ليصبح الجناح السوري لاحقاً متحفاً مفتوحاً للفن الوطني.
أسماء رائدة مثل فريد زنبركجي، خالد معاذ، سعيد النابلسي، ووهبي الحريري شاركت في تصميم المعرض وأجنحته، إلى جانب النحات الرائد فتحي محمد، الذي أنجز أربع لوحات نحتية بارزة تمثل ركائز الاقتصاد الوطني، وتوالت بعده الأسماء كرشاد قصيباتي، زهير صبان، جورج خوري، وسعيد مخلوف، الذي طوّع الخشب والحديد في منحوتات فريدة زيّنت واجهات المعرض ونوافيره.
الجداريات بدورها تحوّلت إلى رواية بصرية للمجتمع السوري، أبرزها جدارية محمود حماد عن فلسطين، وجدارية مجيد جمول النحاسية، وأعمال عبد المنان شما، وممدوح قشلان، وغازي الخالدي، وصولاً إلى فاتح المدرّس الذي زيّنت لوحته قاعة رجال الأعمال عام 1979.
ولم تكن الهوية البصرية غائبة عن الدورات، بل اعتُمد ملصق سنوي حمل شعار المعرض المثلثي (الصناعة، الزراعة، التجارة)، يطبع على البوسترات والطوابع والدعوات، مع إضافات إبداعية تختلف كل عام.
المعرض يحتفي بالشعراء
وكانت للشعراء مشاركة رمزية في معرض دمشق الدولي، إذ شارك الشاعر الكبير سليمان العيسى عبر أمسيات شعرية في الستينيات، فيما حضر عدة شعراء عرب من مصر ولبنان والعراق ضيوفاً دائمين عليه مثل، أحمد عبد المعطي حجازي، معين بسيسو، محمد الفيتوري، عبد الرزاق عبد الواحد وغيرهم.
السينما والمعرض

في الدورة الأولى للمعرض استُخدمت تقنية عرض متقدمة تُعرف باسم “السينراما” (عرض سينمائي بانورامي بثلاث كاميرات)، وجُلبت إلى سوريا للمرة الأولى، واستقطبت الجماهير لدرجة أن أكثر من 100 ألف شخص شاهدها.
بعد دورتين فقط من انطلاق المعرض، شهد عام 1956 أول مهرجان سينمائي رسمي في سوريا والعالم العربي، جرى تنظيمه بالتزامن مع فعاليات معرض دمشق الدولي، وشاركت فيه أفلام من نحو 13 دولة، منها فرنسا، إنجلترا، إيطاليا، الهند، مصر، وتَضمنت فعالياته عروضاً سينمائية ولقاءات مستمرة على مدى أسبوعين.
وعلى مدى دورات المعرض كانت المؤسسة العامة للسينما تعرض دورياً أحداث إصداراتها، ضمن ما يعرف بسينما الهواء الطلق.
الكلمة تُجدّد موعدها مع الحياة
اليوم وبعد التحرير، تترقب الساحة الثقافية بشغف الدورة الأولى للمعرض دون النظام البائد، وذلك في ال ٢٧ من آب الجاري، لتواصل الكلمة ثورتها في إعادة الإعمار الفكري بعد أن كانت شاركت في ثورة الحرية … حرية الإنسان والكلمة عام ٢٠١١.