دمشق-سانا
نظّم مجمع اللغة العربية بدمشق أمس ندوة استذكارية بمناسبة مرور ربع قرن على رحيل العلامة والمفكر المجمعي الدكتور محمد بديع الكسم، الذي توفي في الخامس من تشرين الثاني عام 2000، بحضور عدد من أعضاء المجمع والعلماء والمثقفين.
مسيرة علمية حافلة وإسهامات فكرية بارزة
وقال الدكتور محمد قاسم أمين المجمع الذي أدار الندوة: “يكرّم المجمع اليوم أحد أبرز رموزه العلمية الذين أثروا الفكر الفلسفي في سوريا والعالم العربي، وهو الدكتور بديع الكسم من مواليد حي مئذنة الشحم بدمشق عام 1924 في أسرة عرفت بالصلاح والعلم، حيث توجه إلى جامعة فؤاد الأول في القاهرة ونال إجازة في الفلسفة عام 1947 والدبلوم العالي عام 1948، وبعد عودته إلى سوريا عُين مدرساً في اللاذقية ثم عضواً في لجنة التربية والتعليم، واختير للتدريس بجامعة دمشق عام 1950”.

وتابع: في عام 1954 أوفد إلى جامعة جنيف في سويسرا وحصل على الدكتوراه بامتياز عام 1958 عن أطروحته البرهان في الفلسفة ليعود بعدها إلى جامعة دمشق أستاذاً مساعداً، كما أمضى عاماً في القاهرة قبل أن يعود للتدريس ونال لقب أستاذ عام 1968، ثم أُعير إلى الجزائر للإسهام في تعريب التعليم العالي، كما أوفد إلى فرنسا عام 1981 لمتابعة بحوثه الفلسفية وانتُخب عضواً عاملاً بمجمع اللغة العربية بدمشق عام 1985.
ومن أبرز مؤلفاته، البرهان في الفلسفة المترجم عن الفرنسية، وكتاب التطور الخالق لهنري برغسون الذي لخصه، وكتاب الخلق الفني: تأملات في الفن من تأليف بول فاليري ترجمه إلى العربية، إلى جانب مجموعة من المقالات المنشورة في مجلات المعرفة والثقافة ومجلة المجمع.
القيم الإنسانية والتواضع الفكري لبديع الكسم
وأشار الدكتور فرحات الكسم، ابن عم الراحل، في كلمة بعنوان بديع الكسم الأب والإنسان، إلى أن المفكر الراحل كان فيلسوفاً عربياً استثنائياً جمع بين النزاهة الفكرية والتجرد في البحث عن الحقيقة، بعيداً عن الانتماءات والمكاسب الشخصية.
ولفت إلى أن الراحل تميّز بتواضعه وسعة اطلاعه ووفائه لطلابه، وأسس لفلسفة إنسانية منفتحة تؤمن بالحقيقة وتناهض التعصب والإقصاء، وترى في التسامح احتراماً لحق الإنسان في التفكير لا تفريطاً بالمبادئ، فاستحق لقب «الفيلسوف الزاهد».
الحوار والحدس: رؤية بديع الكسم للفلسفة الحية

وأوضح الدكتور محمد سعيد الطاووس، الحاصل على دكتوراه في المنطق وفلسفة العلم من جامعة باريس الأولى، بمداخلته التي حملت عنوان «بين الكتابة والكلام… الرهان الفلسفي عند بديع الكسم»، أن الفيلسوف الراحل اختار التوقف عن الكتابة الفلسفية بعد أطروحته الرئيسة لا انسحاباً، بل التزام برؤية فلسفية ترى أن الحقيقة تُعاش بالحوار أكثر مما تُدوَّن على الورق.
وبيّن أن الكسم تبنّى رؤية فلسفية عميقة تُعلي من شأن الحدس والبرهان الداخلي وترفض الفصل بين الفكر والحياة، فالحقيقة عنده تُدرك من الداخل لا عبر المنطق الخارجي، وهو ما جعله يفضّل الكلام الحيّ على النص الجامد، متقاطعاً في ذلك مع تقاليد سقراط التي اعتبرت الفلسفة حواراً ومعايشة عقلية وروحية للحقيقة.
ذاتية الحقيقة بين فلسفة الكسم والسفسطائية
بدورها قدمت الدكتورة هني محمد الجزر، أستاذة الفلسفة في جامعة دمشق والحاصلة على الدكتوراه من جامعة عين شمس، مداخلة بعنوان ذاتية الحقيقة بين السفسطائيين وبديع الكسم بالسفسائيين، مشيرةً إلى أن صحة أي حكم فلسفي تتوقف على الاعتقاد الشخصي لقائله، وأن التوكيد النفسي للفعل الاعتقادي أساس لتقييم صحة القضية.
واختتمت الجزر بثلاث نتائج أساسية: أولاً، الحكم الصادق يعتمد على الاعتقاد الداخلي للقائل؛ ثانياً، إدراك الحقيقة يتطلب فهم أسسها الذاتية؛ ثالثاً، لا يمكن للحكم أن يتجاوز حدود أسسه الذاتية، مهما اختلف إدراك الأفراد.
الميتافيزيقيا في رؤية الدكتور بديع الكسم

وقدّم الدكتور علي إسبر، محاضر بجامعة دمشق وحاصل على الدكتوراه في الفلسفة، قراءة متعمقة لفلسفة الدكتور بديع الكسم، بعنوان الميتافيزيقيا في رؤية الدكتور بديع الكسم، مركّزًا على موقفه النقدي من الميتافيزيقيا الغربية، ومشددًا على أن كل الميتافيزيقيا نتاج فكر الفيلسوف ذاته، وبالتالي قابلة للنقاش والتقويم من داخل موقف ميتافيزيقي آخر.
وبيّن أن أي حكم فلسفي، سواء كان من أفلاطون أو ديكارت، يُفهم على أنه مطلق في وعي مبتكره، لكنه يحتاج إلى التحقق والإقناع ضمن الفضاء العام للفكر الفلسفي.
نبذة عن الفيلسوف
يُعد الدكتور محمد بديع الكسم (1924-2000) من أهم المفكرين والفلاسفة السوريين والعرب في القرن العشرين، وهو فيلسوف وأستاذ جامعي بارز تميز بتأثيره العميق في الفلسفة، تدريسها، تعريبها، والكتابة عنها، ومساهمته في إحياء دور الفكر العربي المعاصر.

