دمشق-سانا
مدينة حلب التي تشغل مكاناً مهماً في التراثين السوري والعالمي، والتي طالتها أضرار كبيرة في مدينتها القديمة ومبانيها التاريخية جراء اعتداءات النظام البائد، كانت محور المحاضرة التي نظمتها المكتبة الوطنية بدمشق، للدكتور المهندس محمود زين العابدين.
المحاضرة التي حملت عنوان “رؤية حضارية حول حلب وهويتها العمرانية… من الدمار إلى الإعمار”، جاءت ثمرة تعاون بين وزارتي الثقافة السورية والثقافة والسياحة التركية، ووكالة التعاون والتنسيق التركية تيكا، ضمن برنامج مخصص لإعادة إعمار حلب.
وزارة الثقافة: إعادة بناء هوية حلب التراثية

وبدأت المحاضرة بكلمة معاونة وزير الثقافة لشؤون التراث والآثار لونا رجب التي أكدت أن حلب قلب نابض بالحضارة، وذاكرة متجذرة بالتاريخ، عرفت كيف تبدع بالفن، كما عرفت مقاومة الحرب والدمار، وتنهض أقوى دائماً، مشددةً على أن مسؤوليتنا اليوم إعادة بناء الروح التي صنعت هوية حلب التراثية، كبدايةٍ لمسار طويل لإعادة إعمار المدينة.
حلب منصة للثقافة
“حلب من المدن العريقة التي انتشرت منها الثقافة لكل المنطقة”، وفقاً لما قاله السفير التركي بدمشق الدكتور برهان كور أوغلو، مشيراً إلى أنها قاومت ثقافياً وحضارياً وبقيت رغم كل الحرب عليها منصةً للثقافة القديمة والإسلامية، وعادت اليوم بعد النصر على حكم ديكتاتوري في سوريا، ما يفتح الفرصة أمامنا للقيام بواجبنا تجاه المدن التي نشرت العلم والفلسفة والثقافة، لإعادة قدرتها مجدداً عبر جهودنا جميعاً.
بدوره نوه منسق وكالة تيكا بدمشق بلال أوزدان بأهمية العمل المشترك مع الدولة السورية لإحياء التاريخ والثقافة المشتركة بين البلدين، مشدداً على ضرورة إعادة إعمار مدينة حلب العريقة بالشكل المناسب.
حلب أقدم المدن المأهولة بالعالم

أما الدكتور زين العابدين فافتتح المحاضرة بتسليط الضوء على تاريخ مدينة حلب، باعتبارها إحدى أقدم مدن العالم المأهولة منذ 12200 سنة حسب اليونيسكو، وأكثرها غنىً بالتراث العمراني، فهي نقطة التقاء كثير من الحضارات، ورغم كل ما تعرّضت له من دمار خلال فترة النظام البائد، بقيت شاهدةً على صمود أبنائها وإصرارهم على إعادة إعمارها.
وتحدث زين العابدين عن عمارة مدينة حلب فهي مدينة داخل السور، وفق النموذج الهلنستي الشطرنجي، ثم تطورت في العصر البيزنطي لتأخذ شكلاً جديداً، كما نجد القلعة القائمة على تلة طبيعية، والشارع المستقيم الذي يعود لما قبل الميلاد، وهو يربط بين باب أنطاكية وصولاً إلى القلعة، بينما توسعت أكثر خلال الفتح الإسلامي وصولاً للمرحلة العثمانية، حيث ازدهرت وبدأت تظهر أحياء جديدة خارج السور، وشيدت فيها كثير من المعالم.
وأشار زين العابدين إلى الأبنية التي صممها المعماري سنان باشا في حلب خلال القرن الـ 16، من التكية الخسراوية وجامع العادلية، كما أعطى لمآذن حلب شكلاً مميزاً عبر القبة المركزية والمئذنة المخرطية.
وتتميز حلب بانطوائية منازلها نحو الداخل والتصاقها ببعضها، وفقاً لزين العابدين الذي أوضح أنه كان للمدينة 12 باباً بقي منها ٥ فقط، وتُعتبر القلعة من أهم المباني الدفاعية التي اشتهرت خاصةً بالفترة الأيوبية، كما يختلف شكل المباني الدينية من مرحلة تاريخية لأخرى، لافتاً إلى التشابه بين النسيج العمراني لمدينتي حلب ودمشق، فالشارع المستقيم بكلا المدينتين بالشكل الهندسي نفسه، كما أن شكل الجامع الأموي فيهما متقارب.
توثيق الأضرار في حلب

أما في المحور الثاني فوثّق زين العابدين حجم الدمار الهائل خلال فترة النظام البائد، والذي يتطلب إطلاق مشروع توثيقي لتحليل الأضرار، واستعرض حلولاً إسعافية لتدعيم المباني وتأهيل البنية التحتية، وقارن بين معالم حلب قبل عام 2011 وبعده، كما عرض شرائح تُظهر حجم الدمار بها خلال زلزال عام 2023.
وفي المحورين التاليين عرض زين العابدين مشاريع التوثيق والترميم، بهدف تأصيل القيم المعمارية والجغرافية للمباني المرتبطة بالذاكرة المكانية للسكان، مع مراعاة الشروط الفنية والخصوصية لكل مَعلم، مشيراً إلى عدة نماذج ورؤى مستقبلية لإعادة بناء المدينة.
رؤية شاملة لإعمار حلب
وأكدت مداخلات الحضور أهمية أن تشمل عملية الإعمار الحجر والبشر والهوية الثقافية والاجتماعية للمدينة.
واختتمت المحاضرة بتوصيات ركزت على ضرورة تكامل الجهود بين الدولة والمجتمع والمنظمات الدولية، من أجل إعادة حلب إلى مكانتها كجسرٍ بين الماضي والمستقبل، ومدينة تنبض بالحياة والإبداع.
سيرة علمية في خدمة التراث المعماري
الباحث محمود راضي زين العابدين، من مواليد حلب، حاصل على بكالوريوس في الهندسة المعمارية من جامعة يلدز التقنية بإسطنبول، وعلى دكتوراه في تاريخ العمارة الإسلامية من جامعة السلطان محمد الفاتح، وحائز عدة جوائز بالتراث المعماري، وأسس عام 2003 مركز شادروان للتراث العمراني، وصدرت له 6 كتب منها “حلب – عمارة المدينة القديمة”.


