دمشق-سانا
تشهد المجتمعات حول العالم تحولات اجتماعية متسارعة بفعل العولمة الرقمية والانتشار الواسع لتقنيات الاتصال الحديثة، ما انعكس على أنماط التفاعل الاجتماعي، وأساليب التعليم والعمل، والصحة النفسية، في وقت حذرت فيه منظمات دولية من تداعيات متزايدة في حال غياب سياسات تنظيمية متوازنة للفضاء الرقمي.
الصحة النفسية في الفضاء الرقمي
وأكدت منظمة الصحة العالمية في بيان لها أن الاستخدام المفرط للمنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي ارتبط بارتفاع مستويات القلق والاكتئاب والعزلة الاجتماعية، وخاصة بين الشباب والمراهقين، مشيرة إلى أن الصحة النفسية لم تعد تتشكل في البيئات الواقعية فقط، بل في الفضاء الرقمي أيضاً.
وشددت المنظمة على ضرورة إدماج التربية الرقمية ضمن السياسات التعليمية والصحية لتعزيز الاستخدام الآمن للتكنولوجيا والحد من آثارها السلبية على التماسك الاجتماعي.
أنماط جديدة للتواصل والعلاقات الاجتماعية
أظهرت دراسات اجتماعية حديثة أن التوسع في استخدام الإنترنت أدى إلى انتقال جزء واسع من العلاقات الاجتماعية إلى الفضاء الافتراضي، ما أتاح تواصلاً أسرع وأكثر انتشاراً، لكنه أضعف بعض الروابط التقليدية داخل الأسرة والمجتمع المحلي.
ويرى متخصصون أن المجتمعات تواجه اليوم نمطاً جديداً من “الترابط الرقمي” الذي يعيد تشكيل مفهوم الجماعة والانتماء، ويخلق هويات رقمية عابرة للحدود تتأثر بثقافات متعددة في آن معاً.
الهوية الثقافية والفجوة الرقمية
وفي هذا السياق، حذرت منظمة اليونسكو من أن التحول الرقمي غير المنضبط قد يؤدي إلى تراجع التنوع الثقافي وتهميش اللغات والهويات المحلية، ما لم تعتمد سياسات تحمي الخصوصية الثقافية وتشجع الحوار بين الثقافات.
وأكدت المنظمة أن العولمة الرقمية تمثل فرصة لتعزيز التفاعل الثقافي، لكنها قد تتحول إلى عامل ضغط اجتماعي في المجتمعات ذات الموارد المحدودة بسبب “الفجوة الرقمية”، أي التفاوت في القدرة على الوصول إلى التكنولوجيا واستخدامها بفعالية.
تفاوت عالمي في الوصول إلى التكنولوجيا
إلى ذلك أفاد الاتحاد الدولي للاتصالات أن نحو ثلث سكان العالم لا يزالون يعانون من ضعف أو انعدام في الوصول إلى الإنترنت، وخاصة في الدول النامية والمناطق الريفية، ما يفاقم التفاوت الاجتماعي ويحد من فرص التعليم والعمل الرقمي.
وشدد الاتحاد على أن سد الفجوة الرقمية شرط أساسي لتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة، داعياً إلى استثمارات دولية في البنية التحتية الرقمية وتوسيع برامج بناء القدرات.
التعليم والعمل في عصر التحول الرقمي
وفي هذا الإطار صرحت المديرة العامة لليونسكو أودري أزولاي بأن التعليم الرقمي يمثل “فرصة تاريخية لتوسيع الوصول إلى المعرفة”، مؤكدة ضرورة ضمان الجودة وعدم تحويل الفضاء الرقمي إلى مصدر جديد لعدم المساواة.
كما تشير تقارير اقتصادية إلى أن العولمة الرقمية أسهمت في انتشار العمل عن بعد وظهور وظائف جديدة مرتبطة بالاقتصاد الرقمي، ما غيّر طبيعة سوق العمل ومتطلبات المهارات.
مستقبل البيانات
ويرى تقرير أممي أن التكنولوجيات الرقمية تستخدم اليوم في تجميع البيانات والذكاء الاصطناعي، لتتبع المشكلات وتشخيصها في مجالات الزراعة والصحة والبيئة، أو لأداء مهام يومية مثل التعامل مع حركة المرور أو دفع الفواتير ويمكن استخدامها للدفاع عن حقوق الإنسان وممارستها، إلا أنه يمكن استخدامها أيضاً لانتهاك تلك الحقوق عبر إمكانية مراقبة الحكومات والشركات لسلوكيات الأفراد واستغلال بياناتهم، ومع ذلك، قد تصبح البيانات الشخصية مكسباً للشخص، إذا أُتيحت صيغة لتنظيم ملكية البيانات الشخصية بشكل أفضل.
وسائل التواصل الاجتماعي
يشير التقرير إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي تربط ما بين قرابة نصف سكان العالم بالكامل، وهي تُمكّن الناس من إسماع أصواتهم والتحدث إلى الأشخاص في جميع أنحاء العالم في الوقت الحقيقي، غير أنها يمكن أيضاً أن تعزز أشكال التحيز وتزرع الفُرقة، بإتاحة منبر لخطاب الكراهية والمعلومات الخاطئة، أو عن طريق تضخيم أصدائه.
من الفجوة الرقمية إلى الحوكمة العالمية
الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش دعا إلى تعزيز الحوكمة الرقمية العالمية، وحماية الخصوصية، ومكافحة خطاب الكراهية والمعلومات المضللة، مؤكداً أن التحول الرقمي يجب أن يكون في خدمة الإنسان والتنمية الاجتماعية.
سياسات رقمية متوازنة لضمان العدالة والتنمية
ويجمع مراقبون على أن نجاح المجتمعات في مواجهة تحديات العولمة الرقمية مرهون بقدرتها على تبنّي سياسات شاملة توازن بين الابتكار وحماية القيم الاجتماعية، لضمان أن يكون التقدم الرقمي أداة للتنمية والعدالة لا مصدراً لانقسامات جديدة.