دمشق-سانا
بعد عقد من التحوّلات الكبرى في ساحات القضاء، لم يعد تغيّر المناخ ملفاً تحسمه السياسات وحدها، بل أصبح جزءاً من معركة قانونية عالمية تُجبر الحكومات والشركات الكبرى على تعديل سلوكها.
فمن قضية “أورخندا” في هولندا إلى محاكم أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية، يتقدّم التقاضي المناخي كأداة لإعادة الثقة إلى المجتمعات وإلزام الملوّثين بتحمّل مسؤولياتهم.
ومع انتهاء مؤتمر “كوب 30” بتسوية وُصفت بالهشّة، يتجه العالم إلى مرحلة جديدة عنوانها: القانون هو خط الدفاع الأخير عن المناخ… والناس عادوا إلى الفعل.
واجب أخلاقي وإلزام قانوني
شهد العقد الأخير طفرة غير مسبوقة في القضايا المناخية، دفعت الحكومات والكيانات الصناعية الكبرى إلى خطوات ملموسة لخفض الانبعاثات، ونقلت العمل المناخي من “حالة الوعود” إلى “حالة الالتزام”.
ويشير تقرير شبكة التقاضي المناخي الصادر اليوم إلى أن هذه الطفرة أسست “هندسة قانونية ملزمة” ترسّخ واجبات واضحة على الدول والشركات، مستندة إلى سلسلة أحكام تاريخية أبرزها قضية أورخندا التي أجبرت الحكومة الهولندية على رفع طموحاتها المناخية.
هذه القضية شكّلت سابقة عالمية، إذ كانت المرة الأولى التي تأمر فيها محكمة حكومة باتخاذ إجراءات أكثر صرامة، بعدما تقدّمت مؤسسة غير ربحية، إلى جانب نحو ألف مواطن، بالتماس لإلزام الحكومة بخفض الانبعاثات وحماية حقوق الإنسان.
فجوة الثقة
هذا الحراك القانوني جاء نتيجة فجوة كبيرة بين رغبة الشعوب وقدرة الحكومات على الوفاء بوعودها، فـ 89% من سكان العالم يرون أن على حكوماتهم بذل جهود أكبر، بينما لا يثق سوى واحد من كل خمسة بأن تلك الوعود ستتحقق، وهكذا أصبح التقاضي وسيلة لاستعادة القدرة على الفعل، بعيداً عن الضغوط السياسية الآنية.
كما فقدت الشركات الكبرى كثيراً من الحجج التي استخدمتها منذ التسعينيات للتهرّب من المسؤولية، مثل اعتبار المناخ “قضية سياسية” أو الادعاء بأن أثر شركة واحدة “قطرة في محيط”، وتراجعت قوة هذه الذرائع بعد سلسلة أحكام في ألمانيا والبرازيل وكوريا الجنوبية وإيرلندا، أرست معايير جديدة لمحاسبة كبار الملوّثين مثل “شل” و”توتال إنرجيز”.
قضايا مفصلية وأثر ممتد
ترصد الشبكة القانونية تزايداً ملحوظاً في القضايا الناجحة خلال السنوات الماضية، بدءاً من دعوى أصغر لغاري في باكستان عام 2015، وصولاً إلى قضية “KilmaSeniorinnen” التي أصدرت فيها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان حكماً ضد سويسرا، معتبرة أن تقاعسها عن العمل المناخي يرقى إلى انتهاك حقوق الإنسان.
حتى القضايا التي لم تحقق نصراً مباشراً تركت أثراً بالغاً، مثل قضية سكان جزر توريس ضد الحكومة الأسترالية، والمزارع البيروفي ليويا ضد شركة RWE، حيث نجحتا في تثبيت مبادئ قانونية تُلزم الشركات بتحمّل تكاليف الأضرار المتوقعة إذا لم تتخذ إجراءات وقائية.
وتؤكد سارة ميد، المديرة المشاركة لشبكة التقاضي المناخي، أن ما كان “واجباً أخلاقياً قبل عشر سنوات أصبح اليوم إلزاماً قانونياً”، وأن المحاكم باتت إحدى أهم أدوات حماية الأجيال المقبلة من الاحترار الخطير.
الطريق لا يزال طويلاً
جاءت نتائج مؤتمر “كوب 30” في البرازيل أقل من توقعات العديد من الدول، خصوصاً مع غياب خريطة طريق للتخلص التدريجي من الوقود الأحفوري. ومع ذلك، تحدثت الأمم المتحدة عن دخول “عصر التنفيذ”، مشيرة إلى نقاط أساسية في الاتفاق قد تدفع العمل المناخي إلى الأمام، مثل التعهدات بمشاريع الطاقة المتجددة وتخصيص تمويلات ضخمة للبنى التحتية في الدول النامية.
ويرى خبراء أن الضغوط المضادة من الدول النفطية ساهمت في إضعاف مخرجات المؤتمر، فيما يؤكد آخرون أن العمل المناخي لا يمكن أن يعتمد فقط على الإجماع العالمي، بل يحتاج إلى مبادرات موازية من الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني، إضافة إلى أدوات قانونية صارمة، وهو ما ينسجم مع صعود التقاضي المناخي خلال العقد الماضي.
إنذارات العلماء.. ومؤشرات الأمل
في موازاة النقاشات السياسية، أصدر مئات العلماء إعلاناً عاجلاً يحذر من دخول البشرية “منطقة الخطر” إذا لم تُخفض الانبعاثات إلى النصف بحلول عام 2030، مع التحذير من استمرار تدهور الغابات والتربة، وهما من أهم المخازن الطبيعية للكربون. لكن الإعلان أضاء أيضاً على “نقاط التحول الإيجابية”، مثل الانخفاض الحاد في أسعار الطاقة الشمسية وتسارع تبني التقنيات منخفضة الانبعاثات.
ويرى خبراء المناخ أن العالم يعيش مفارقة واضحة: فالانبعاثات لا تزال مرتفعة، لكن الأدوات القانونية والتقنية والاجتماعية لتحقيق نتائج ملموسة لم تعد بعيدة المنال. وتشير التجارب التاريخية من بروتوكول كيوتو إلى التزامات الاتحاد الأوروبي إلى أن وضع أهداف طموحة غالباً ما يقود إلى تجاوزها، رغم كل الضجيج المعارض.
المستقبل يُعاد رسمه
بين ساحات القضاء وطاولات التفاوض وتحذيرات العلماء، يتحرك العالم نحو مرحلة جديدة عنوانها التغيير المفروض لا الاختياري. فالتقاضي المناخي، الذي بدأ كحراك شعبي محدود، أصبح اليوم أحد أكثر الأدوات تأثيراً في ضبط سلوك الحكومات والملوّثين الكبار.
ومع ضغط الرأي العام، وتمدد الطاقة المتجددة، وازدياد قوة الأحكام القضائية، يقترب الكوكب من لحظة قد تغيّر اتجاه المعركة: المساءلة أصبحت واقعاً، والقانون بات الدرع الأخير لحماية المناخ.