دمشق-سانا
تحولت المنطقة القطبية الشمالية اليوم إلى أحد المسارح الساخنة على الساحة الدولية، رغم كونها المنطقة الأبرد على وجه الأرض، فذوبان الجليد بفعل التغير المناخي لم يعد مجرد مؤشر بيئي، بل أصبح حدثاً جيوسياسياً يغير شكل المنافسة العالمية، ويعيد رسم الخرائط البحرية ومسارات التجارة الدولية، كما يكشف عن ثروات طاقية هائلة كانت أسيرة الجليد لآلاف السنين.
تقارير مركز المسح الجيولوجي الأمريكي كشفت أن المنطقة تحتوي على نحو 13 بالمئة من احتياطات النفط العالمية غير المكتشفة و30 بالمئة من الغاز الطبيعي، إضافة إلى معادن نادرة مثل النيكل والكوبالت والبلاتين، بينما تشير دراسات أكاديمية حديثة إلى أن الممرات القطبية يمكن أن تختصر زمن الشحن بين آسيا وأوروبا بنسبة تصل إلى 40 بالمئة مقارنة بالمسارات التقليدية عبر قناتي السويس وبنما، ما يعزز قيمتها التجارية واللوجستية على المستوى الدولي.
تسابق القوى الكبرى على القطب الشمالي
وفي ظل هذه التحولات، تتسابق القوى الكبرى من روسيا والولايات المتحدة وصولاً إلى الصين ودول أوروبا لتثبيت مواقعها، مستندة إلى قدرات عسكرية ولوجستية وتصريحات سياسية تعكس حجم التوتر الذي يزداد عاماً بعد عام، فمنذ إصدار وزارة الدفاع الأمريكية في الـ 22 من تموز الماضي لـ “استراتيجية القطب الشمالي 2024″، أوضحت واشنطن أن القطب لم يعد هامشياً وأنه بات يمثل ساحة تنافس مباشر مع روسيا والصين.
واشنطن بدأت رفع جاهزية العمليات وتطوير البنية العسكرية في القطب الشمالي، وأكدت أنها لن تسمح بفرض واقع جديد، ما يعكس إدراكاً أمريكياً بأن التأخر الطويل في بناء قدرات قطبية، وخاصة في مجال كاسحات الجليد، سمح لروسيا بتعزيز حضور غير مسبوق في هذا المجال.
التحركات الروسية تأتي في الاتجاه المعاكس تماماً لسياسات واشنطن، ففي التاسع عشر من أيلول 2024، تعهد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بأن بلاده ستدافع بكل الوسائل السياسية والعسكرية والتقنية عن مصالحها في القطب الشمالي، مؤكداً أن موسكو تراقب “الأنشطة غير المعتادة” للناتو في المناطق الشمالية.
هذه التصريحات تزامنت مع توسيع روسيا لقاعدتها في أرخبيل “نوفايا زيمليا” في أقصى شمال البلاد، إضافة إلى إنشاء بنية تحتية قادرة على خدمة الطيران والصواريخ والدفاع الجوي، بما فيها منظومات “إس400″، فضلاً عن تطوير أسطول كاسحات الجليد النووية الأكبر في العالم.
الصين تدخل السباق إلى القطب الشمالي
الصين بدورها، دخلت السباق القطبي بصيغة مختلفة، فمع إعلانها في 26 كانون الثاني 2018 وثيقة “الورقة البيضاء للسياسة القطبية”، وصفت نفسها بأنها دولة قريبة من القطب الشمالي، وهي صيغة أثارت استغراب العديد من الدول، لكنها عكست رغبة صينية واضحة في تثبيت موطئ قدم استراتيجي.
الوثيقة شددت على أن بكين تسعى لدعم البحث العلمي وحماية البيئة القطبية، لكنها تحدثت أيضاً عن بناء “طريق حرير قطبي” بالتعاون مع روسيا لتطوير ممرات بحر الشمال، مستفيدة من ذوبان الجليد لربط آسيا بأوروبا بطرق بحرية أقصر من تلك التي تمر عبر قناة السويس.
هذا الطموح الاقتصادي أخذ بعداً أمنياً في تشرين الأول 2024 عندما بدأت الصين أولى دورياتها المشتركة مع خفر السواحل الروسي في المحيط المتجمد الشمالي، في خطوة فسرها مراقبون غربيون بأنها نقطة تحول في ميزان القوى البحري في الشمال.
الناتو سيدافع عن مصالحه في المنطقة القطبية
بالمقابل، أوروبا وعلى رأسها دول الناتو، لم تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا التمدد الروسي والصيني ففي الـ 21 من تشرين الأول 2024، أكد قائد قوة الناتو في الشمال بيتر باور أن الحلف ملتزم بالدفاع عن مصالحه في المنطقة القطبية وأن حرية الملاحة خط أحمر لا يمكن السماح بتقييده. كذلك، دعا تقرير البرلمان الأوروبي الصادر في تشرين الثاني 2025 إلى استراتيجية أكثر صرامة تركز على الأمن والدفاع والموارد الطبيعية، محذراً من أن عسكرة المنطقة تهدد الاستقرار الدولي.
أما الأبعاد البيئية والإنسانية والقانونية فتشكل تهديدات ملحة بسبب الاحتباس الحراري في القطب، ما يؤثر على حياة الشعوب الأصلية ويهدد الأمن الغذائي والثقافي، بينما يضيف البعد القانوني تعقيدات تتعلق بالنزاعات حول الممرات الجديدة والموارد المعدنية والنفوذ الجيو سياسي. بالمقابل تحذر تقارير الأمم المتحدة من أن ارتفاع درجات الحرارة في القطب يزداد بوتيرة أسرع بأربع مرات من المتوسط العالمي، ما يؤثر بشكل مباشر على المجتمعات الأصلية مثل “الإينويت” الذين يحمون جزءاً كبيراً من التنوع البيولوجي العالمي لكنهم يتلقون أقل من 1 بالمئة من التمويل المناخي الدولي.
وبينما تحاول الدول الكبرى إقامة توازن بين التنمية والبيئة، يبدو واضحاً أن القوى المتنافسة تستثمر في القطب الشمالي بقدر أكبر مما تستثمر في حماية مناخ الأرض، وسط دعوات متزايدة لتحديث القوانين الدولية بما يضمن هذا التوازن. وفي المحصلة، يتجه القطب نحو مرحلة تاريخية جديدة تعاد فيها صياغة موازين القوى عبر ثروات تحت الجليد وممرات تجاوزت الحدود التقليدية للمحيطات.