دمشق-سانا
مع تزايد النزاعات الدولية والإقليمية خلال السنوات الأخيرة، سجّل العالم مستويات قياسية في استهداف الإعلاميين الذين يقفون في الخط الأول شهوداً على الوقائع لكنهم يدفعون ثمناً باهظاً يصل حدّ القتل المتعمد، في الوقت الذي تتراجع فعالية آليات الحماية الدولية إلى حدود غير مسبوقة.
تصاعد خطير في عدد الضحايا
تشير أحدث التقارير الدولية إلى أن السنوات الثلاث الأخيرة شهدت القفزة الأكبر في أعداد الصحفيين القتلى منذ عام 2014، ففي العام 2023 قتل أكثر من 130 صحفياً حول العالم، أي بزيادة تقارب 60 بالمئة عن العام الذي سبقه، بينما يعد 2024 الأكثر دموية منذ عقد بالنسبة للصحفيين، ووصلت الحصيلة إلى نحو 170 صحفياً، معظمهم في الشرق الأوسط وأوكرانيا، فيما سجل العام 2025 حتى منتصفه أكثر من 70 حالة قتل موثقة لصحفيين، إلى جانب عشرات حالات الخطف والإخفاء القسري.
واللافت وفق التقارير أن أكثر من 70 بالمئة من حالات القتل وقعت في مناطق نزاع مباشر، بينما ارتبطت الحالات الأخرى بتغطية التظاهرات الواسعة والاضطرابات الأمنية، خصوصاً في بعض دول أمريكا اللاتينية وإفريقيا.
غزة.. استهداف عشرات الصحفيين والمؤسسات الإعلامية
سجل قطاع غزة في فلسطين المحتلة أعلى معدل اغتيال للصحفيين فقد شهدت الحرب الإسرائيلية على غزة واحدة من أقسى الهجمات الممنهجة ضد الإعلاميين، فقضى ما بين 2023 و2024 أكثر من /115/ صحفياً فلسطينياً، وفق توثيقات منظمات دولية أشارت إلى أن الغالبية العظمى قضت نتيجة استهداف مباشر لمساكن أو مركبات أو مواقع صحفية، كما شهدت هذه الفتر تسجيل أكثر من /200/ حالة إصابة، وهدم عشرات المؤسسات الإعلامية بشكل كامل.
ويعد هذا الرقم الأعلى منذ حرب البوسنة في التسعينيات، ويعكس تحولاً خطيراً إذ لم يعد استهداف الصحفي خسارة جانبية، بل جزءاً من عملية عسكرية لطمس الحقائق.
أوكرانيا.. حرب التكنولوجيا والاستهداف الدقيق
مع اشتداد الحرب الروسية الأوكرانية، برز نمط جديد من استهداف الصحفيين، حيث دخل سلاح الطائرات المسيرة المفخخة في صلب ملاحقة واستهداف الصحفيين، إذ يتم رصد تحركات الفرق الإعلامية بشكل دقيق عبر الذكاء الاصطناعي قبل استهدافه، وقد قتل أكثر من 30 صحفياً منذ 2022، معظمهم بالقرب من خطوط التماس بين الجيشين الروسي والأوكراني.
سوريا واليمن والعراق.. استهداف مئات الصحفيين
منذ عام 2011، الذي شهد اندلاع الثورة في سوريا ضد النظام البائد، وثّقت منظمات حقوقية مقتل أكثر من 330 صحفياً، بينهم مراسلون محليون وأجانب، إلى جانب مئات الإصابات والاعتقالات والخطف.
في اليمن، أدّى الانقسام السياسي والعسكري إلى مقتل 52 صحفياً منذ 2015، إضافة إلى محاكمات وإعدامات ميدانية، طالت عشرات الصحفيين، بينما عاش الصحفيون في العراق فترات صعبة شكلت خطرا متزايداً للصحفيين قبل أن تنخفض وتيرة العنف مقارنة بعقد دامٍ مضى.
إعلاميون بين القتل والخطف والابتزاز الرقمي
لم تعد الجبهة العسكرية هي مصدر الخطر الوحيد، فالصحفيون اليوم يواجهون، مصادر خطر متعددة ليس من السهل الإحاطة بها كلها، فبعضها مستحدث غير مسبوق، ويعد الاعتقال والتعذيب في أكثر من 30 دولة، من أكثر هذه المصادر انتشاراً، يليه الاختطاف مقابل فدية، وهو أسلوب ينتشر على نطاق واسع في أفغانستان والساحل الإفريقي، إضافة إلى الهجمات الإلكترونية والابتزاز الرقمي، مع استخدام متزايد للبرمجيات التجسسية لاستهداف هواتف الصحفيين، وخاصة في الشرق الأوسط.
الرقمنة أداة جديدة لملاحقة الكلمة
أدى تطور أدوات الرقابة الرقمية الى تزايد هشاشة الصحفيين ووقوعهم ضحايا للاستهداف، بغض النظر عن ماهيته، إذ يتعرض أكثر من 45 بالمئة من الصحفيين الذين يعملون في النزاعات لمحاولات اختراق لأجهزتهم، وقد تم في هذا السياق الكشف عن استخدام برمجيات تجسس عالية التطور من قبل عدة حكومات لتعقّب المراسلين ومصادرهم، كما تم رصد حملات تشويه منظمة تستهدف مصداقية الصحفيين على منصات التواصل، وهو شكل مستحدث من القمع غير المباشر.
أسباب تصاعد الاستهداف
يرى خبراء الإعلام الدولي أن استهداف الصحفيين لم يعد مجرد نتيجة للفوضى الأمنية، بل أصبح ظاهرة لها دوافع واضحة لعدة عوامل، منها منع نقل الجرائم والانتهاكات إلى الجمهور العالمي، والسيطرة على الرواية الإعلامية للحرب، إضافة إلى تضارب مصالح الجهات العسكرية والسياسية مع التغطية المستقلة، وضعف آليات الحماية الدولية وفشل الأمم المتحدة في ردع المنتهكين.
تراجع فعالية المجتمع الدولي
رغم وجود اتفاقيات دولية، مثل اتفاقيات جنيف وقرارات مجلس الأمن بشأن حماية الصحفيين، فإن معدل الإفلات من العقاب يتجاوز 85 بالمئة من الجرائم المرتكبة ضد الإعلاميين خلال العقد الماضي، كما أن التحقيقات المستقلة نادراً ما تصل إلى نتائج حاسمة، ما يشجع أطراف النزاع على المضي في سياسة “إسكات الشهود”.
الحاجة إلى تحرك دولي جديد
في محاولة للسيطرة على ظاهرة استهداف الصحفيين واحتوائها، يدعو مختصون في الإعلام وحقوق الإنسان إلى تفعيل آليات رقابية ملزمة للدول الأطراف في النزاعات وإدراج حماية الصحفيين ضمن أولويات مفاوضات وقف إطلاق النار، وإنشاء قاعدة بيانات دولية موحدة لتوثيق الانتهاكات، إلى جانب فرض عقوبات على الأطراف التي تستهدف الإعلاميين بشكل منهجي.
ويبقى الصحفيون في الوقت الذي تتصاعد فيه النزاعات وتتشابك فيها الدعاية مع العمليات العسكرية، آخر خط دفاع عن الحقيقة، لكن هذا الدفاع بات يتمّ بثمن فادح، وسط سباق محموم لأطراف النزاعات لتشكيل سردياتها وإخفاء الحقائق عن أعين العالم، وما لم يتحرك المجتمع الدولي بصورة جادة وفاعلة، فإن الحرب على الحقيقة ستظل مفتوحة وتستعر، وسيبقى الإعلاميون يدفعون الثمن الأكبر في ساحات القتال.