دمشق-سانا
يجري الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حالياً جولة آسيوية في توقيت بالغ الحساسية، إذ تتصاعد وتيرة الصراع العالمي حول ما يُعرف بـ”المعادن النادرة” والمواد الحيوية للتكنولوجيا الحديثة.
فقد تحولت هذه الموارد من مجرد قضية تقنية إلى أداة جيو- اقتصادية تلعب دوراً محورياً في إعادة تشكيل موازين القوى بين واشنطن وبكين، في ظل تحركات أمريكية وأوروبية متسارعة لتقليص الاعتماد على الإمدادات الصينية.
تشمل جولة ترامب زيارات إلى ماليزيا واليابان وكوريا الجنوبية، وتُختتم بلقاء مرتقب مع الرئيس الصيني شي جين بينغ على هامش قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ (أبيك) في بوسان، وقد بات ملف المعادن النادرة في صلب المحادثات الحكومية والصفقات الاقتصادية المعلنة خلال هذه الجولة.
المعادن النادرة: ساحة صراع اقتصادي
تلعب المعادن النادرة (REEs) والمكونات المرتبطة بها، مثل المغناطيسات عالية الأداء ومواد التكرير والمنتجات الوسيطة للرقائق والطاقة المتجددة، دوراً حاسماً في صناعات استراتيجية تشمل السيارات الكهربائية والطاقة النظيفة والإلكترونيات والدفاع.
وتُظهر البيانات أن الصين تهيمن على هذا القطاع، إذ تنتج نحو 69% من إجمالي التعدين العالمي لأكاسيد المعادن النادرة لعام 2023، وتسيطر على أكثر من 90% من قدرات التكرير والمعالجة، إضافة إلى نسبة مماثلة في إنتاج المغناطيسات الدائمة المستخدمة في المحركات والطائرات والصواريخ.
هذا الواقع يجعل العديد من الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة وأوروبا، تعتمد بشكل شبه كامل على سلاسل توريد تمر عبر الصين، ما حول المعادن النادرة إلى ورقة تفاوضية واستراتيجية، وعندما أعلنت بكين مؤخراً فرض قيود على التصدير، سادت مخاوف عالمية من تعطل خطوط الإنتاج في قطاعات حساسة، وهو ما يفسر أولوية هذا الملف في جولة ترامب الآسيوية.
رسائل اقتصادية وسياسية متشابكة
يحمل جدول زيارة ترامب رسائل متعددة الأبعاد، من توقيع اتفاقيات تجارية واستثمارات في مجالات أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي مع ماليزيا، إلى إبرام اتفاقات لتأمين المعادن الحيوية مع شركاء مثل أستراليا، وقد أكد البيت الأبيض أن ملف المعادن النادرة سيكون محوراً رئيسياً في المحادثات الثنائية، خصوصاً اللقاء المرتقب مع الرئيس الصيني في 30 تشرين الأول الجاري على هامش قمة أبيك.
إدارة ترامب تلوّح بزيادة الرسوم الجمركية، واستثمارات مباشرة في شركات التعدين والمعالجة خارج الولايات المتحدة، وتشكيل مخزونات استراتيجية، وتحفيز الإنتاج المحلي عبر دعم مالي وتشريعي، لكن هذه الخطط تواجه تحديات تقنية وبيئية وزمنية، إذ إن بناء مناجم ومصاف جديدة يتطلب سنوات واستثمارات ضخمة.
أوروبا تتحرك دبلوماسياً وتجارياً
لم تبق أوروبا على الهامش، إذ تعمل المفوضية الأوروبية على إعداد قائمة إجراءات تجارية لمواجهة القيود الصينية، إلى جانب خطة قصيرة الأجل لتأمين الإمدادات وفتح مسارات بديلة، بالتنسيق مع شركاء مجموعة السبع، وتستعد بروكسل لاستخدام أدوات “الأمن الاقتصادي” لحماية قطاعي الصناعة والدفاع من أي اضطرابات في التوريد، ما يعكس تحول القضية إلى أزمة صناعية أوروبية أيضاً.
ويشمل التنسيق الغربي اتفاقات ثنائية (مثل الاتفاق الأمريكي- الأسترالي)، ومطالبات بزيادة الإنتاج لدى دول بديلة مثل كندا وأستراليا وبعض الدول الإفريقية، ودعم مشاريع التكرير المحلية في الولايات المتحدة وأوروبا، إلا أن الخبراء يحذرون من أن هذه الإجراءات تتطلب وقتاً وموارد ضخمة قبل أن تتحول إلى بدائل فعلية قادرة على سد الفجوة الصينية.
احتواء القلق والتمسك بالورقة الاستراتيجية
تصف الصين قيودها بأنها “إجراء مسؤول” لحماية الأمن الوطني وسلاسل القيمة المحلية، وسعت إلى طمأنة الشركات الأجنبية عبر لقاءات موسعة وشرح آليات الترخيص الجديدة، لكنها في الوقت ذاته أكدت أنها ستستخدم أدوات الرقابة والتقييد بما يخدم مصالحها القومية.
وتُقرأ هذه التحركات على أنها محاولة لترسيخ موقف تفاوضي قوي قبيل القمة مع واشنطن، ورسالة واضحة بأن بكين ليست بصدد التنازل عن ورقة استراتيجية باتت جزءاً من قوتها الصناعية.
تداعيات اقتصادية محتملة
يرى خبراء الاقتصاد أن استمرار التوتر حول المعادن النادرة قد ينعكس سلباً على الصناعات الحساسة عالمياً، مثل السيارات الكهربائية وأشباه الموصلات والطاقة المتجددة، فارتفاع أسعار هذه المواد أو انخفاض كمياتها قد يؤدي إلى زيادة أسعار المنتجات النهائية وتأخير عمليات الإنتاج لدى الشركات الكبرى.
وفي المقابل، تتسابق الولايات المتحدة وأوروبا وأستراليا وكندا للاستثمار في مناجم ومصاف جديدة لتأمين بدائل عن الصين، إلا أن هذه المشاريع تحتاج إلى سنوات لتؤتي ثمارها، نظراً لتعقيد عمليات الاستخراج والمعالجة وما تتطلبه من بنى تحتية وتمويل ضخم.
كما يحذر محللون من أن أي اضطراب في تدفق هذه المعادن قد يفاقم الضغوط التضخمية عالمياً، ويهدد استقرار سلاسل التوريد الصناعية التي يعتمد عليها الاقتصاد العالمي بأسره.
لم يعد الصراع حول المعادن النادرة مجرد تنافس تجاري، بل تحول إلى سباق على النفوذ الاقتصادي والتقني بين القوى الكبرى، ففي حين تسعى الولايات المتحدة وأوروبا إلى تنويع مصادر الإمداد وتقليل الاعتماد على الصين، تواصل بكين تعزيز موقعها عبر التحكم بمراحل الإنتاج والتكرير، ما يمنحها ورقة ضغط استراتيجية يصعب تجاوزها في المدى القريب.
