دمشق-سانا
يروي الدكتور براء السراج في كتابه “من تدمر إلى هارفارد: رحلة سجين عديم الرأي”، قصة شهادة إنسانية ومعرفية عن اعتقاله لنحو 12 عاماً في سجني تدمر وصيدنايا، مقسَّماً الكتاب إلى 3 أقسام تتضمن سرداً زمنياً وحديثاً عن الشجون، ووثائق وصوراً عن السجن.
سيرة وشهادة من قلب الزنزانة
دوّن الدكتور السراج كتابه بلغة توثيقية وأدبية في آن واحد، دون أن يغرق في اليأس ولا يخفف من ثقل الجريمة التي ارتكبها النظام البائد بحق المعتقلين.
الكتاب الذي صدر خارج سوريا عام 2012، جمع بين السيرة الذاتية والشهادة التاريخية، حيث شعر المؤلف أن زمن الانتظار انتهى بوجود آذان صاغية وواعية لم تكن موجودة سابقاً، ويقول عن ذلك في حديث مع سانا: “كانت النية في الكتابة موجودة منذ كنت في سجن تدمر، وعند خروجي وانتقالي إلى أمريكا، انتظرت أعواماً حتى أتخرج من الجامعة وكان الهم الأكبر ألا يتأذى أحد من عائلتي أو معارفي داخل سوريا، لذلك تأخر النشر، وكان الانتقام الحقيقي من نظام الأسد الأب هو القدرة على الكلام بحرية عن هذا «المجرم»، وهو في رأيي انتقام كاف”.
موجة اعتقالات واسعة للطلاب
اعتُقِل السراج ضمن موجة اعتقالات سياسية واسعة طالَت الآلاف من طلاب الجامعة، حيث قضى 9 سنوات في تدمر و3 في صيدنايا، في مكان لا يُسْأَل فيه الفرد عن رأيه بقدر ما يعامل كرقم في ملف أمني.
وعن مكان الاعتقال ومدته وسببه، قال السراج: “في 5 آذار 1984 كنت في الـ21 من العمر، أدرس في السنة الثانية بكلية الهندسة الكهربائية بجامعة دمشق، وكنت يومها متوجهاً نحو كليتي، فوجدت طابوراً طويلاً من الطلاب يفتَشونَ بدقة من قبل رجال الأمن العسكري، وتساءلت في تلك اللحظة: «مسكين من سيتم اعتقاله اليوم»، دون أن أدري أني أنا ذلك المسكين، وسبب اعتقالي إلصاق تهمة انتمائي إلى الإخوان المسلمين بسبب صلاتي في مسجد، وهو السبب نفسه طال عشرات الآلاف”.
لحظة الاعتقال والتعذيب
بعد اعتقاله نقل إلى فرع التحقيق بحماة، حيث سأل السراج عناصر أمن النظام البائد إلى أين تأخذونني، جاء الجواب: «على جهنم الحمراء»؛ ومع مرور الوقت اتضح له أن هذا الوصف ليس مبالغة، حيث كان التعذيب صباحاً ومساء وعبارة عن سلسلة متصلة من الضرب والإغماء والجروح والتجويع، إضافة إلى نقص الأدوية، وعندما نقل من حماة إلى دمشق واجه رعباً أكبر وكأن من يعذِّب المعتقلين موظَّف يؤدي «واجباً إدارياً»، أما في صيدنايا فكان يستقبل المعتقل بالكثير من الضرب.
التجويع حتى الموت
ويشير السراج إلى أنهم كانوا يتعمدون تكرار المجاعات كل سنتين، ليموت معها المساجين بسبب فقر الدم وسوء التغذية، وفي كثير من الأحيان كان يوزع ربع رغيف خبز في اليوم على ثمانية أشخاص، وكأس شاي واحدة لعشرة، مع تعمُّد قطع أدوية حيوية كدواء السل، ما يجعل الموت بالتدريج جزءاً من «النظام الغذائي» داخل السجن.
آليات البقاء على قيد الحياة
تطرَّق السراج في كتابه إلى آليات البقاء من خلال تلاوة القرآن الكريم قلبياً، والذي حفظ أجزاء كثيرة منه من رفاقه، فقراءة القرآن والصلاة والصوم من المحرمات، كما كان يطلع على ما يحمله السجناء من علوم متعددة فهم نخبة مثقفة من طلاب جامعات وأصحاب علوم.
ولجأ مع أصدقائه إلى الكوميديا السوداء، حيث أقاموا مسرحيات ساخرة داخل المهاجع مع تقليد لعناصر الأمن وضباط السجن، واستخدام اللغة اليومية والتهكُّم لتوليد ضحكة مشتركة حتى أثناء تناول الطعام، لتعزيز القدرة على الاحتمال.
وعن علاقة السجناء ببعضهم قال: “كان المعتقلون يحبون المعتقل الأكثر تضحية، كنا جميعنا سوريين، تجمعنا آلام ومصير مشترك أكثر من الشعارات”.
ذاكرة حديدية
يعود سبب امتلاك السراج ذاكرة حديدية استعاد خلالها في كتابه، التعذيب والإعدامات والأسماء والتواريخ خلال 12 عاماً، إلى أن الإنسان في تلك اللحظات يمتلك ذهناً صافياً عندما يكون قريباً جداً من الموت، قائلاً: “كنا نراجع التواريخ والحوادث سنوياً مع بعض السجناء، لتقوية الذاكرة الجماعية، وسارعتُ بعد وصولي إلى أمريكا عام 1997 إلى تدوين التواريخ والأسماء، ثم وسَّعتُ ما كتبته عام 2000″، مضيفاً: “تبقى بعض الوقائع مثل إعدام أعز أصدقائي في 15 آب 1989 من النوع الذي لا يمكن أن يُنسى”.
وأوضح السراج أن عملية الكتابة لم تكن سهلة، لأنها تعني تجديد تلك التجارب مرة ثانية، ما جعل مزاجه يميل للغضب أكثر من الحزن، وهو ما لاحظته زوجته أثناء فترة الكتابة التي استغرقت خمس سنوات، غير أن نقل الصورة للناس خارج السجون ليعرفوا حجم المأساة والجريمة، فرض عليه وضع العاطفة جانباً لصالح التركيز على المهمة.
وأوضح السراج أن ما يخطر بباله بعد مرور 30 عاماً من الخروج من السجن في 19 تشرين الثاني عام 1995 صورة جدران سجن تدمر الصفراء للمهاجع المطلة على الباحة الأولى، وهدير معمل اللبن القريب، وأصوات الطائرات الحربية وصيحات «قف» طوال الليل، أما في صيدنايا، تستعيد ذاكرته رائحة البيض المقلي بالبصل، بينما كان السجين يتعرض للضرب والرفس على الدرج إلى الطابق الثالث.
الرد العلمي أفضل انتقام
لطالما نظر السراج إلى باب السجن قائلاً: «سأخرج رغم أنفك»، وبعد خروجه وسفره تابع علمه وحصل على دكتوراه في علم المناعة، وتخصص في علم الأحياء والكيمياء من جامعة هارفارد، وعمل باحثاً في جامعات أمريكية، لذلك هو يرى أن أفضل رد على النظام البائد تحقيق مكانة علمية.
رسالته
أما عن رسالته للمجتمع السوري والعالم فمفادها: “يمكن الحديث عن المآسي والتعذيب، لكن الأهم هو الخروج من وضع الضحية إلى وضع الفاعل؛ وأرى نفسي إنساناً منتجاً في مجتمعه، قادراً على مساعدة الآخرين لا انتظار مساعدتهم”.
ويؤكد السراج أن السجين يحتاج جهداً مجتمعياً قبل كل شيء، وعلى كل عائلة أن تعتني بسجينها، وعلى كل مدينة أن تراعي أبناءها ولا سيما بناتها، فالمأساة مضاعفة عند السجينات، ما يجعل الحاجة إلى دعمهن أكثر إلحاحاً.
يُعدُّ كتاب “من تدمر إلى هارفارد” في طبعته الأولى في سوريا الصادرة عن دار الفكر لعام 2025 من القطع الكبير في (388) صفحة، شهادة حية توثق مآسي السجون السورية، وتبرز قوة الإرادة الإنسانية في مواجهة الظلم، وأهمية التوثيق للأجيال الجديدة كأداة للذاكرة الجماعية.
لمحة عن الكاتب
الدكتور براء السراج سوري من مواليد 1963، حاصل على دكتوراه في علم المناعة من جامعة راش الأمريكية عام 2006، وتخرج بتخصص علم الأحياء والكيمياء من جامعة هارفارد، وعمل باحثاً في جامعات أمريكية مثل نورث ويسترن.