دمشق-سانا
منذ بدايات القرن العشرين، شكل الطب النفسي والأدب مساحتين متقاربتين في دراسة النفس البشرية، الأول يحللها علمياً بحثاً عن أسباب الألم، بينما يصوغ الثاني معاناتها بلغة الفن والإبداع، فيحوّل الجراح الخفية إلى كلمات تقرأ وتحس.
من هنا، تبرز العلاقة الوثيقة بين الطبيب النفسي والأديب، حيث يتقاطع العلم مع الخيال في سعيهما لفهم الإنسان وشفائه من داخله.
وفي إطار هذا التلاقي، استطلعت وكالة سانا آراء المحلل النفسي والروائي إحسان غرير والاستشاري في الطب النفسي الدكتور مأمون المبيض، اللذين قدّما رؤى متكاملة تجمع بين التحليل العلمي والعمق الأدبي.
الأدب تحليل نفسي عميق
يؤكد المحلل النفسي إحسان غرير أن الأدب يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتحليل النفسي، موضحاً أن بناء الرواية بخطوات مدروسة لإقناع القارئ يشبه مسار المعالج النفسي في الاقتراب من وعي المريض ولا وعيه دون خلل أو صدام، ويشير إلى أن الأديب، مثل الطبيب، ينفذ إلى أعماق النفس ليعيد بناءها من خلال الكلمة والصورة والحدث.
وحول تأثير خبرته الطبية في رسم الشخصيات الروائية، أوضح غرير أن عمله في العيادة النفسية منحه احتكاكاً مباشراً مع نماذج إنسانية متنوعة، مكنته من استلهام شخصيات واقعية ذات أبعاد نفسية عميقة، تعكس ما يختبئ داخل الإنسان من صراعات ومشاعر متناقضة.
ويرى غرير أن التحليل النفسي يقدّم حلولاً علمية للمعضلات الداخلية، غير أن الأدب يتفوق عليه في قدرته على طرح النهايات المفتوحة والأسئلة التأملية، بما يتيح للقارئ مساحة أوسع للتفكير وإعادة النظر في تجاربه الخاصة.
التنويم المغناطيسي والعلاج الأدبي
يعتبر غرير أن الأدب في حد ذاته علاج نفسي، فكما يعتمد التنويم المغناطيسي على تكرار الحكاية للوصول إلى اللاوعي، يقوم الأدب بالدور ذاته من خلال السرد المتكرر الذي يوقظ الذاكرة ويحرّر المشاعر المكبوتة، ويشير إلى أن الخيال في النص الأدبي يشكل وسيلة تقارب بين الكاتب وشخصياته كما بين الطبيب ومريضه، فيخلق ما يسميه الألفة الإنسانية التي تفتح باب الشفاء.
ويعتقد غرير أن الأشخاص العاطفيين هم الأكثر تفاعلاً مع الأدب، لأنهم يجدون في النصوص مرآة لذواتهم وتجاربهم، ورأى أن القراءة الواعية قادرة على تغيير الإنسان نحو الأفضل وإعادة صياغة رؤيته للحياة.
الأدب جسر لفهم الإنسان الكامل
من جانبه، يوضح الطبيب النفسي مأمون المبيض أن العلاقة بين الأدب وعلم النفس ذات بعد فلسفي عميق، فالأدب – برأيه – يجسّد تكامل الإنسان جسداً وروحاً وفكراً، ويعمل كجسر لفهم هذا الكائن المركب الذي لا يمكن دراسته بعلم واحد، بل بتكامل الإبداع والمعرفة.
الأدب تجسيد للتجارب النفسية والإنسانية
ويبين المبيض أن الطبيب النفسي يمتلك المادة الخام لتجسيد الصراعات الداخلية بصدق وعمق، لخبرته المباشرة بمعاناة الإنسان وأمراضه النفسية، بينما يحتاج الأديب غير المتخصص إلى البحث والتمثّل العاطفي ليصل إلى ذلك المستوى من الواقعية.
الأدب.. أداة علاج كاشفة للنفس
ويختتم المبيض حديثه بالتأكيد على أن الأدب وسيلة علاجية وكاشفة للنفس، ويقول: “يمكن للأدب أن يكون بديلاً أو مكملاً للعلاج النفسي، كأن نمنح طفلاً يتيماً قصة عن اليتم فيتفاعل معها ويتجاوز ألمه، فالأدب، يجمع بين العلم والإبداع في سعيه لفهم الإنسان، ليبقى منبراً راقياً للشفاء والتعبير عن الذات”.