دمشق-سانا
تبدو رواية دفتر الرئيس للكاتب الفلسطيني السوري سمير الزبن وكأنها كُتبت بعينٍ تستشرف المستقبل، إذ لم تكتفِ برسم ملامح الطاغية في لحظة سطوته، بل حملت بين سطورها نبوءة عن سقوطه وانكشاف هشاشته.
منذ صدور الرواية عام 2018، قدّمت مشهدًا متخيّلًا عن رئيس يهرب من دمشق، من دون أن تسميه، تاركاً خلفه دفتر اعترافاته، وكأنها تعلن مسبقًا مصير الرئيس المخلوع الذي ظنّ أن السلطة قدرٌ أبدي.
تمنح الرواية القارئ رؤية أدبية استباقية لمسار نهاية الديكتاتور المحتومة، مؤكدةً أن الطغاة مهما امتلكوا من أدوات القمع والبطش، فإنهم في النهاية سيواجهون سقوطًا حتميًا، شاؤوا أم أبوا.
البنية السردية في الرواية
تنقسم الرواية إلى شطرين: الأول إطار حكائي، يبدأ بالعثور على دفتر الرئيس المخلوع بعد فراره من دمشق، وكأننا أمام وثيقة متخيلة تستخرج من قلب السلطة لتصل إلى أيدي قارئ مجهول.
الشطر الثاني، عبارة عن مونولوج طويل يلقيه المخلوع نفسه على صورة دفق غزير من الذكريات والرغبات والتبريرات، يتراوح بين وقائع سياسية وشخصية، وبين سرد طفولي ونزوات غريزية، ليصوغ صورة سلطة مأزومة ودموية.
صورة الرئيس المخلوع في الرواية
نجد الرئيس المخلوع في الرواية ليس مجرد رمز جامد، بل إنسان مفرط في نرجسيته، يتأرجح بين ادعاء العبقرية والشعور بالهشاشة، يرى نفسه قدرًا تاريخيًا حتميًا، ويبرر عنفه الوحشي باعتباره وسيلة لإنقاذ الوطن، لكنه لا يخفي خوفه الدائم من المؤامرات والانقلابات، إن الرواية هنا تعري منطق الاستبداد وكيف يحول الطاغية جرائمه إلى بطولة، وكيف يرى في الدم طريقًا للحفاظ على الأمة.
علاقة الأب بالابن
من أكثر ما تكشفه الرواية بعمق هو لعبة التوريث بين الأب والابن، فالأب رسم مسار حياة وريثه بدقة، حتى لحظاته العاطفية الأكثر خصوصية، وبعد غياب الأب، ظل الابن أسيرًا لظله، مشدوداً بخيوط غير مرئية تحدد قراراته ومساراته، ليجد القارئ نفسه أمام حقيقة مأساوية بأن السلطة في سياق كهذا لا تُورّث إلا بالدم.
الطاغية بين مرآة الثورة ولعبة القوى وتهافت السلطة
الثورة السورية تحضر كظلّ ثقيل يطارد الرئيس المخلوع، إنها بالنسبة له مؤامرة كونية، لكن في حقيقة النص هي المرآة التي تعكس زيف خطابه: أكثر من مليون قتيل، ملايين المهجرين، مدن وقرى مدمرة، والثورة لا تظهر هنا كبطلة مباشرة، لكنها خلفية دامية تكشف تناقض السلطة مع الواقع، وتجعل من خطاب الطاغية مادة لإدانته.
الرواية تفتح المشهد على القوى الدولية والإقليمية، حيث يتضح أن المخلوع، مهما ادعى السيطرة، ليس إلا دمية في لعبة أكبر منه، وأن سلطته ليست نابعة من الداخل بقدر ما هي مرهونة بقرارات الخارج.
رغم مظاهر القوة، يظهر الرئيس في الرواية هشًا، خائفًا من مؤامرات داخلية وخارجية، مدركًا أن سلطته مؤقتة، وأن التاريخ قد ينقلب عليه فجأة، يعيش أسيرًا لفكرة الحماية الدولية أكثر مما يعيش على شرعية داخلية، في مفارقة صارخة بين صورة القوة وحقيقة الضعف.
لغة الرواية تعكس دموية الديكتاتور
لغة الرواية مشبعة بالهذيان الاعترافي، جمل طويلة متدفقة، مليئة بالاستطرادات، يتنقل السرد بين المأساوي الجاد والغرائزي الفج، بما يعكس طبيعة الطاغية: مزيج من الوهم والوحشية، التبرير السياسي والرغبات الجسدية.
ونجد في الرواية ثيمات أساسية يركز عليها الكاتب، النرجسية السلطوية حيث يرى الطاغية نفسه محور الكون، التوريث الدموي؛ لأن السلطة قدر يتوارثه الأبناء عن الآباء، حتمية التاريخ بأن الطغيان مهما طال له نهاية، والفجوة بين الخطاب والواقع، حيث التبرير جاهز دائماً لكل الخراب الذي جرى.
في المحصلة، تشكل دفتر الرئيس سردًا حزينًا عن سوريا المعاصرة، عن بلد حولته أطماع عائلة إلى جحيم، وعن رئيس ظل أسيرًا لهذيان السلطة حتى لحظة السقوط، لتقدم رؤية مختلفة للثورة السورية، ليس عبر شهادات الضحايا، بل من خلال اعترافات القاتل نفسه، علماً أن الرواية تقع في 322 صفحة من القطع المتوسط وهي من إصدارات دار الحرية.
رحلة في الكتابة والمنفى
المؤلف سمير الزبن من مواليد دمشق عام 1964، نشأ في مخيّم اليرموك، ودرس الحقوق في جامعة دمشق قبل أن ينتسب إلى نقابة المحامين، كما عمل في الكتابة الصحفية، ومع اندلاع الثورة السورية وتضييق سلطات النظام البائد عليه، اضطر إلى مغادرة سوريا عام 2012، ويقيم حاليًا في السويد، صدر له روايات: قبر بلا جثة، في غبار الماضي، وصوت السماء، حكايات عن الحرب والحب.