دمشق-سانا
عندما زحف الشباب السوريون إلى الساحات والميادين العامة للمطالبة بالحرية ورفع الظلم والاستبداد في آذار 2011، لم يكونوا يحملون في أذهانهم سوى تصوّرات عن الهتافات التي يريدون المناداة بها، والتي كانت تستمدّ مضمونها من مظاهرات الربيع العربي في مصر وتونس وليبيا، ولا سيّما تلك العبارة السحرية “الشعب يريد إسقاط النظام”.
ولكن اتساع وتيرة المظاهرات والعنف الدموي من قبل قوات أمن النظام البائد تجاهها، جعل هذا الشعار لا يختصر وحده مطالب وآلام شعب تحمّل الكثير من الاضطهاد والقمع عبر عقود، فعاد السوريون إلى تراثهم الحيّ وإلى أغاني الآباء والأجداد وطوّروها، فظهرتْ أهازيج خاصّة بالثورة السورية، أبهرت العالم أجمع، بجرأتها وجمالها وبساطتها.
بدأ استلهام الثائرين لتراث بلادهم من درعا، مهد الثورة، فكانت الجوفية الحورانية هي الحاضر الأبرز فيها، وهي عبارة عن مقاطع من الشعر الشعبي تؤدى ضمن حلقة، يقوم فيها شخص بقراءة بيت ويردّده الجميع وراءه بصوت عال ولحن خاص، دون مرافقة الموسيقا، وكان استخدام الجوفية مناسباً جداً للحدث؛ لأنها تجسد حالة التضامن بين المتظاهرين، كما أنها تحشد عدداً كبيراً من الجمهور، ومن هذه الجوفيات التي ذاعت في الآفاق وانتشرت بقوة عبر وسائل التواصل الاجتماعي:
“حوران يا برق لاعج يوم الغضب..
وتسابقت يوم المنايا أشبالها”
وكما استولدت الثورة أبطالها، فقد استولدت أيضاً مغنيها ومنشديها، التي طافت أغانيهم وأهازيجهم الآفاق، فلمع من درعا اسم المطرب الشعبي أحمد القسيم، ابن الحراك، والذي تحول إلى منشد للثورة، وغدت أغنيته “عيني عليها” بكائية حقيقية لما طال الشعب السوري وأبناء درعا من طاغية مجرم لا يراعي حرمة للدم، وتقول كلماتها:
“عيني عليها حوران يا أهل الهوى يا عمي عيني عليها
لأسهر وراعيها وأشيل عنها الحزن لقلبي عيني عليها”
ولا ننسى أيضاً أنشودة “ارفع راسك فوق أنت سوري حر” للقسيم نفسه التي غناها قبل 13 عاماً وغدت نشيداً للثورة، حيث استمد مطلعها من أغنية ثورية ليبية إبان إسقاط نظام معمر القذافي، لكنه أضاف إليها مقاطع جديدة من وحي ثورة السوريين وتراث حوران، ومما قاله فيها:
“ارفع راسك لا للذلة
عن أرضك لا لا تتخلى
لا تركع إلا لله
أنت سوري حر”
ومن أناشيد الثورة التي قدمها أبناء درعا نستذكر أهزوجة “داعل يا أمّ الأحرار” التي غناها أبناء هذه البلدة في مظاهراتهم الليلية، وتحوّلت بلحنها المبني على الأغنية الشهيرة “لازرعلك بستان ورود” إلى مغناة شهيرة بعد أن قدمها المنشد قاسم الجاموس، والذي قضى في حادث سير مؤسف بعد أن انتشى بانتصار الثورة.
وفي السويداء تستوقفنا تجربة الفنان القدير سميح شقير، حيث كانت أغنيته أول عمل فني يتصدى لبطش النظام بحق الشعب السوري؛ إذ راعه قتل المتظاهرين العزل، فكتب ولحن أغنية “يا حيف” والثورة ما تزال في أيامها الأولى:
” واحنا اللي قلنا اللي بيقتل شعبو خاين
يكون من كاين
والشعب مثل القدر
من ينتخي ماين
والشعب مثل القدر
والأمل باين”
ومن غوطة دمشق، إحدى أولى المناطق التي انتفضت نصرةً لدرعا، خرجت باقة من المنشدين ممن استلهموا تراث العراضات في المظاهرات، ولعل أكثرهم شهرة أبو ماهر الصالح الذي انتمى لأسرة عرفت بالإنشاد وقراءة القرآن الكريم، وخلال تشييع شهيد من كفر بطنا في بداية الثورة، وجد نفسه يهرع ليحمل نعش الشهيد ويغني ارتجالاً بقلب محروق:
“ربي يرحم شهدانا ويجازي كل من عادانا
لا تيأس يا شعب العز رب البرايا معانا
طالع أنا للحرية دمي بيديّ
وإن جئتك يا أمي شهيد لا تبكي عليّ
روحي فداكِ يا غوطة فداء الشعب اللي عانى”
وفي دوما، معقل الثورة بريف دمشق، سطع نجم المنشد موفق أبو عماد الذي بدأ نشاطه الغنائي منذ بداية الحراك السلمي، مركزاً على مواجهة الظلم ونبذ الطائفية ووحدة فصائل وأحزاب المعارضة، ومن أناشيده الشهيرة “هي هي يا سجّاني”.
ومن حمص، التي حملت لقب عاصمة الثورة، يطل اسم منشدٍ ومغنٍ أحاطته هالة من البطولة، إنه الشهيد عبد الباسط الساروت، حارس الثورة السورية وبلبلها، فهذا الشاب هجر كرة القدم وأحلامها الوردية وانساق بجوارحه إلى جانب أبناء شعبه المنتفضين على حكم الديكتاتورية، وأبهر السوريين بأناشيده الحماسية وأسلوبه الجريء، وإلى جانبه الفنانة فدوى سليمان، حيث غنى العالم كلّه معه “جنة جنة” التي أنشدها في اعتصام الساحة الشهير الذي استشهدَ فيه المئات تحت رصاص الإجرام:
“جنة جنة جنة.. والله يا وطنا
يا وطن يا حبيب يا أبو تراب الطيب
حتى نارك جنة”
الساروت كان كمن يستقرئ مصيره فغنى “يا يمه” عن ذلك الشاب الذي حملوه إلى أمه شهيداً، حيث بكت الحشود في ساحة الساعة بحمص وهي تغنيها لوالدة الساروت بعد النصر:
“يا يمه بثوب جديد
زفيني جيتك شهيد
جيتك شهيد بثوب العيد
والجنة بيتي الجديد”
وإلى الشمال من حمص وعاصيها نتوقف في مدينة أبي الفداء حماة، التي قدمت للثورة إبراهيم القاشوش، عامل الإطفاء والمنشد، والذي تحول في ليلة وضحاها إلى علم من أعلام الحرية، حيث هتف بين نصف مليون متظاهر في ساحة العاصي “يلا ارحل يا بشار”، ما دفع بالموسيقار السوري العالمي وعازف البيانو الشهير مالك جندلي إلى تخليد كلماته في سيمفونية تجريدية جمعت في مطلعها التحدي ومشاعر الرعب من بطش النظام، والذي بلغ من وحشيته أن بعث شبيحته للاعتداء على والدي مالك في بيتهما بحمص وهما الدكتور مأمون الجندلي ولينا الدروبي.
وأدلت بلد القدود حلب بدلوها في هذا الحراك الغنائي الثوري، فبرز من صفوف الشباب المتظاهرين المنشد أبو الجود، الذي كان يقود المظاهرات ضد النظام مقدماً الأهازيج الثورية بطريقة القدود الحلبية، مغيراً الكلمات لتعبّر عن أحداث الثورة وبطش النظام وقصف الأحياء بالبراميل، كما قدم أغاني دعا من خلالها المهاجرين إلى العودة لوطنهم فقال:
“يا مهاجر من سوريا
تركت الدنيا وما فيها
هي بلدك عفتها لمين
يدي ويدك نبنيها
خايف على روحك يا حيف
روحي فداكِ سوريا”
وفي الشمال السوري أيضاً نستحضر منشداً لقّب نفسه بقاشوش جرجناز، واسمه الحقيقي رائد الحامض، إذ استشهد شقيقاه على يد عناصر النظام الذين أحرقوا بيته، فكان أول منشد للثورة من إدلب وانتشرت أغانيه كالنار في الهشيم بفضل أسلوبه المتفرد وصوته الذي جمع القوة والعذوبة.
صدى الأناشيد الثورية لم يقتصر داخل الوطن، بل تجلى في المغترب أيضاً، حيث صُدم الموسيقيون في خارج الوطن برد فعل النظام البربري والوحشي إزاء منشدي الثورة ومغنيها، فوجدنا مطرباً مثل وصفي المعصراني المقيم في التشيك يخصص جل نتاجه الفني لدعم الثورة، وقدم في البداية “درعانا تنادي”، ثم وضع إمكاناته لدعم نشاطات الثائرين الفنية وتعاون في هذا الصدد مع الشهيد الساروت، حتى وصلت أعمال المعصراني إلى نحو 30 أغنية ونشيداً، ظهر فيها أسلوبه الخاص في جمع المدرسة الغربية بالشرقية، ومن مثال ذلك أغنيته “سكابا يا دموع العين سكابا على سوريا وشبابها”.
ومن التجارب المهمة في أغاني الثورة بالمهجر تحضر تجربة الفنان خاطر ضوا المقيم في مصر، والذي أنتج ألبومات كاملة مخصصة لدعم الحراك الشعبي بوجه النظام، وظهر فيه تأثره بالمنشدين الشعبيين مع إضافة لمسة عاطفية خاصة تعبر عن الحنين للوطن، كما في أغنيته الشهيرة “يا سوريا لا تسجلينا غياب”.
ومن مغني المهجر “يحيى حوّا” الذي كان لأناشيده طابع حزين يحكي فيها الآلام، مثل “ياسمين الشام”، وأخرى عبر من خلالها عن التحدي مثل “سقطت جدران الخوف” و”شو منحبك يا بلادي” وغيرها من الأناشيد المُغنّاة للثورة:
“لن أركع أبداً لن أركع
فأنا بالحرية أصدع”
هذا غيض من فيض أغاني الثورة التي عبرت بحق عن تطلع الشعب للحرية ورفضه للاستبداد وقمع الحريات، حيث توحدت حناجر مغنيها وموسيقييها نحو هدف واحد، هو التحرر من الظلم والحكم الفردي الاستبدادي، وهذا ما كان.