دمشق-سانا
من قاعات البطولات العالمية إلى غياهب السجون، تختصر قصة رانيا العباسي بطلة سوريا في الشطرنج مأساة آلاف المفقودين في سوريا، ممن غيبهم النظام البائد في معتقلاته ولم يُعرف مصيرهم حتى اليوم.
إنجازات رياضية لامعة في عالم الشطرنج
العباسي، المولودة في دمشق عام 1970، طبيبة أسنان برزت منذ صغرها في لعبة الشطرنج، حيث أحرزت بطولة الجمهورية بعمر 14 عاماً خلال مشاركتها الأولى في حمص عام 1984، رفقة البطل عماد حقي، واستمرت في حصد البطولات لعقدٍ من الزمن، فلم تخسر أي بطولة للجمهورية شاركت بها، ومثلت سوريا بأولمبياد الشطرنج في دبي 1986، وسالونيك باليونان، وأولمبياد العالم بنوفيساد، إلى أن اعتزلت اللعبة بعد سفرها للسعودية للعمل بأحد المستوصفات.
الاعتقال العائلي عام 2013
لكن حياة العباسي المهنية والعائلية تبددت في التاسع من آذار عام 2013، حين اقتحمت عناصر من المخابرات العسكرية منزلها في مشروع دمر، واعتقلت زوجها، وفي اليومين التاليين، صادرت ممتلكات العائلة، ثم اعتقلت رانيا مع أطفالها الستة وسكرتيرتها مجدولين القاضي، وفق ما رواه شقيقها لاعب الشطرنج السابق حسان العباسي، المقيم في كندا.
جهود متواصلة لكشف مصير الأطفال المغيّبين
وقال حسان خلال حديثه لـ سانا: “كانت أعمار أطفالها حينها تتراوح بين عام ونصف و14 عاماً، ومنذ ذلك الحين انقطعت أخبارهم، ونُرجح أن رانيا وزوجها قد استشهدا أثناء الاحتجاز، بينما نحاول اليوم، بالتنسيق مع الجهات المعنية تتبع مصير أطفالها، وخاصة في ظل الحديث عن تغيير هويات بعض الأطفال في دور الأيتام خلال فترة النظام البائد”.
وأضاف: “رانيا لم تكن تنتمي لأي حزب أو تيار سياسي، لكنها عُرفت بتقديم المساعدة للعائلات النازحة من حمص إلى دمشق، خلال الثورة السورية، وهو السبب في اعتقالها”.
موقف إنساني راسخ منذ الطفولة
من جانبها، قالت شقيقتها الدكتورة نائلة العباسي، المقيمة في الرياض: “كانت رانيا ترفض مغادرة سوريا، لاعتقادها أن عملها الإنساني لا يشكّل خطراً، لعدم مشاركتها بأي نشاط سياسي، لذلك شكل اعتقالها صدمةً لنا جميعاً، وخاصةً أنه جاء على خلفية تقديمها العون للأسر التي نزحت إلى دمشق من مدينة حمص خلال الثورة السورية”.
واستذكرت نائلة موقفاً من طفولة رانيا قائلة: “عندما فازت ببطولة الجمهورية بالشطرنج، كان هدفها الأكبر أن تقابل المجرم الأب لتطالب بالإفراج عن والدنا المعتقل سياسياً حينها، لكن ذلك لم يجد نفعاً، ليتم الإفراج عن والدي لاحقاً بعدما أصيب بمرض عضال”.
الأسرة تُعوّل على نتائج التحقيق الوطني
وعن مشاعر العائلة بعد تحرير سوريا، قالت الدكتورة نائلة: “انتظرنا هذا اليوم طويلاً، لكن فتح السجون دون العثور على رانيا وأطفالها شكّل صدمة كبيرة، وخاصة بعد اكتشاف دور الأيتام التي أخفت الحقيقة ولم تساعدنا في الوصول إليهم، اليوم نثق بالتحقيقات الجارية من قبل الدولة، ونأمل بالكشف عن مصير شقيقتي وعائلتها، ومحاسبة المسؤولين عن جريمة الإخفاء”.
شهادات رياضية من مدربها الدولي
وعن إنجازاتها الرياضية، قال مدربها محمد هشام الأرغا، المقيم في فنلندا: “دربت رانيا منذ عام 1984، وقد أبهرت الجميع بحضورها اللافت ومهاراتها الاستثنائية، حيث حازت المركز الأول منذ أولى بطولة للجمهورية للسيدات شاركت بها، ونالت ذهبية الفرق في بطولة العرب عام 1993، وذهبية الفردي في بطولة العرب أيضاً، ولا تزال اللاعبة السورية الوحيدة التي وصلت إلى هذا التصنيف الدولي”.
واختتم الأرغا حديثه بالإشارة إلى أن رانيا كانت إنسانة نادرة، صاحبة مبادئ راسخة وأخلاق عالية.
تحقيق وطني في مصير المفقودين والمختفين قسراً
وكانت رئاسة الجمهورية العربية السورية قد أصدرت في الـ 17 من أيار الماضي مرسوماً يقضي بتشكيل “الهيئة الوطنية للمفقودين”، وهي هيئة مستقلة معنية بكشف مصير المفقودين والمختفين قسراً، وإنشاء قاعدة بيانات وطنية موثقة، بهدف إنصاف ذويهم وتقديم الدعم القانوني والإنساني لهم، وتأتي هذه الخطوة لتؤكد أن هذا الملف سيظل أولوية وطنية لا يمكن إغلاقه إلا بإحقاق العدالة وكشف الحقيقة.