دمشق-سانا
تشكل الثورات محطات مفصلية في تاريخ الشعوب، تعيد من خلالها بناء الدولة وتنظيم مؤسساتها لتحقيق تطلعاتها بأوطان تسودها العدالة والحرية والاستقرار، والتجارب الثورية التي شهدتها العديد من دول العالم، تثبت أن نجاح أي ثورة لا يقاس بقدرتها على التغيير السياسي فحسب، بل بقدرتها على بناء نظام حكم راسخ وتأسيس دولة تستجيب لطموحات الشعب وتحمي مكتسبات ثورته وتضمن ديمومتها.
في هذا السياق تبرز الثورة السورية التي انطلقت عام 2011 ضد حكم “نظام الأسد” الديكتاتوري كنموذج يحتذى به في الانتقال من الحراك الثوري إلى مرحلة بناء الدولة، حيث تعمل القيادة السورية الجديدة على استثمار الإمكانات المتاحة لإطلاق إصلاحات شاملة ترسي ملامح سوريا الجديدة، التي تحقق العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع مواطنيها.
ثورات غيرت وجه العالم
على مر التاريخ، شهد العالم ثورات مهمة أحدثت تحولات كبرى في أنظمة الحكم وبنية المجتمعات وتحقيق مطالب الشعوب بالحرية والعدالة والمساواة، أبرزها الثورة الأمريكية (1765-1783) التي أثمرت الاستقلال عن التاج البريطاني في الـ 4 من تموز 1776 وأسست دولة تقوم على مبادئ الحرية والاستقلال وتطورت باضطراد لتصبح من أقوى دول العالم.
اندلعت هذه الثورة رفضاً للضرائب والقيود التي فرضتها بريطانيا على المواطنين الأمريكيين في أمريكا الشمالية لتحرمهم من المشاركة بصنع القرار، وتقيد حرياتهم الاقتصادية والسياسية، مطالبةً بالحرية وتقرير المصير والمشاركة في صنع القرار وقادتها رموز مثل جورج واشنطن وتوماس جيفرسون اللذين يعدان من الآباء المؤسسين للولايات المتحدة.
وبعدها بفترة وجيزة، قامت الثورة الفرنسية (1789-1799) كرد فعل على الاستبداد الملكي والفوارق الاجتماعية الصارخة التي سببتها الضرائب الباهظة على طبقات الشعب الفقيرة، ورفعت شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية، لتعيد تشكيل المجتمع الفرنسي وترسي دولة تقوم على أسس المواطنة والعدالة.
هاتان التجربتان وغيرهما من الثورات الناجحة، تؤكد أن نجاح الثورات لا يتحقق فقط بإسقاط الأنظمة المستبدة وتحطيم هياكل الظلم، بل ببناء دولة تقوم على مؤسسات قوية، تستند إلى دعم شعبي واسع ووحدة وطنية متماسكة تمكنها من مواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية والثقافية وغيرها.
الثورات العربية.. شرارة التغيير
شهدت المنطقة العربية بين عامي 2010 و2012 موجة من الثورات الشعبية ضد الأنظمة الديكتاتورية، انطلقت من تونس وامتدت إلى مصر وليبيا واليمن وسوريا، مطالبةً بالحرية والعدالة الاجتماعية وإنهاء الاستبداد، ورغم اختلاف نتائج تلك الثورات إلا أنها شكّلت لحظة تاريخية فارقة، أعادت تشكيل الوعي الشعبي، ومهّدت الطريق أمام السوريين لإطلاق ثورتهم الخاصة، التي تميزت لاحقاً بقدرتها على التحول إلى مشروع بناء دولة مستدامة.
سوريا: من الثورة إلى بناء الدولة
بعد انتصار الثورة السورية وإنجاز التحرير في الـ 8 من كانون الأول 2024، دخلت البلاد مرحلة جديدة عنوانها بناء الدولة، ومنذ اللحظات الأولى، شرعت القيادة في إعادة تأسيس المؤسسات الوطنية وتعزيز التماسك المجتمعي، مستندة إلى شعار جامع: “نصر لا ثأر فيه”، في توجه واضح جاء لتجاوز آثار الانقسام والنعرات التي خلّفها النظام البائد، وضمان حماية مكتسبات الثورة، مستندة إلى إرادة شعبية واعية تمهيداً لانطلاق المرحلة التنفيذية التي امتدت فيها جهود البناء لتشمل مختلف جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
في الـ 29 من كانون الثاني2025 انعقد مؤتمر إعلان انتصار الثورة السورية وسط حضور موسع من فصائل إدارة العمليات العسكرية وقوى الثورة السورية وأُعلن فيه القائد ” أحمد الشرع” رئيسا للبلاد في المرحلة الانتقالية، إلى جانب إلغاء العمل بدستور عام 2012 ، وحل مجلس الشعب المشكل في زمن النظام البائد وجيشه وأجهزته الأمنية وحل حزب البعث، فضلاً عن حل جميع الفصائل العسكرية والأجسام الثورية السياسية والمدنية ودمجها في مؤسسات الدولة.
في الـ 25 من شباط 2025 انطلق مؤتمر الحوار الوطني الذي شدد على ضرورة الحفاظ على وحدة الجمهورية العربية السورية، وسيادتها على كامل أراضيها، ورفض أي شكل من أشكال التجزئة والتقسيم، وأوصى بتشكيل لجنة دستورية لإعداد مسودة دستور دائم للبلاد، يحقق التوازن بين السلطات، ويرسخ قيم العدالة والحرية والمساواة، ويؤسس لدولة القانون والمؤسسات.
في الـ 13 من آذار2025 وقَّع الرئيس الشرع إعلاناً دستورياً يحدد المرحلة الانتقالية بمدة خمس سنوات وقال: “نتمنى أن يكون هذا تاريخاً جديداً لسوريا نستبدل فيه العلم بالجهل والرحمة بالعذاب”.
وبالتوازي، بدأت الحكومة بناء نواة جيش وطني قادر على بسط الأمن والاستقرار، مع تنظيم القوى الأمنية لضمان سيادة القانون وحماية المجتمع وتوفير أفضل الظروف للمضي قدماً في تثبيت أسس الدولة الجديدة التي طالما حلم بها السوريون.
إصلاح اقتصادي يقود التنمية
إيماناً بأن الاقتصاد هو ركيزة الدولة الحديثة أطلقت الحكومة مجموعة من المشاريع التنموية لتحسين الوضع المعيشي شملت قطاعات التعليم والصحة والقضاء والبنية التحتية، بهدف إعادة البناء وتحفيز النشاط الاقتصادي وتحقيق التنمية المستدامة.
وفي هذا الإطار أصدر الرئيس الشرع عدداً من المراسيم والقرارات المهمة التي أسهمت في تسهيل الإجراءات المالية وتقوية قطاع المصارف، ودعم القطاعات الحيوية مثل الطاقة والزراعة والصناعة، وتحسين مناخ الاستثمار في سوريا.
انفتاح دبلوماسي ومكانة دولية متقدمة
بالتزامن مع التركيز على النهوض الاقتصادي، عززت سوريا حضورها الإقليمي والدولي عبر حركة دبلوماسية نشطة أعادت بناء علاقاتها مع الشركاء الإقليميين والدوليين، ما أسهم بفتح قنوات جديدة للحوار مع المؤسسات المالية والاقتصادية العالمية وعواصم القرار، الأمر الذي أثمر تخفيفاً للعقوبات الدولية المفروضة على البلاد وإيجاد مناخ دولي داعم لمسار الإعمار والتعافي، بعد أن ظهر جلياً التزام الدولة بالإصلاحات وتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي.
نحو مستقبل مستدام
هذه الخطوات تأتي ضمن رؤية شاملة لمسار طويل من التعافي والنمو، يؤسس لسوريا الجديدة القادرة على حماية مكتسبات شعبها، ومواجهة التحديات الداخلية والخارجية بثبات.