كريستيانسيد-النرويج-سانا
في أحد مقاهي مدينة كريستيانساند جنوب النرويج، جلست الشابة سمية آدن تحتسي قهوتها المفضلة، تتحدث بشغف لافت عن فكرة قد تبدو غير مألوفة للبعض: الاستثمار في سوريا، كلماتها لم تكن مجرد أمنيات عابرة، بل كانت تنبض بيقين راسخ، وكأنها ترى في سوريا ما يغيب عن أعين الآخرين.
قالت بابتسامة واثقة وهي تحدّق من خلف زجاج المقهى نحو الشوارع الهادئة: “سوريا اليوم بحاجة إلى من يؤمن بها، لا من يرثيها”، خلف هذه العبارة الموجزة، امتد حديث عميق عن الإيمان بالفرص وسط الركام، وعن جيل جديد من روّاد الأعمال الذين يرون في سوريا طاقة اقتصادية كامنة، تنتظر من يكتشفها ويؤمن بها.
من سوريا إلى النرويج: رحلة انتماء لا تنتهي
تنحدر سمية آدن من أصول صومالية وتحمل الجنسية الدنماركية، وتُعد من أبرز الشخصيات الشابة في مجتمع ريادة الأعمال في النرويج، وُلدت في الدنمارك، لكنها انتقلت إلى دمشق في سن الخامسة، حيث عاشت في مدينة التل بريف العاصمة لمدة اثنتي عشرة سنة، تركت خلالها بصمة عميقة في تكوينها الثقافي والإنساني، فتعلّمت اللغة العربية، واندمجت في المجتمع السوري واكتسبت عاداته وتقاليده.
تتحدث سمية بشغف عن انتمائها لسوريا، مؤكدةً أن هذا الانتماء ليس مجرد شعور، بل دافع حقيقي لتحويله إلى خطوات عملية تسهم في دعم البلاد خلال مرحلة التعافي، وتقول في حديثها لوكالة سانا: “سوريا كانت مكاني الأول، المكان الذي تعلّمت فيه معنى الصبر، الناس هناك يمتلكون قدرة مذهلة على التكيّف، وهذا ما يجعلني أؤمن أن الاستثمار فيهم هو الاستثمار الحقيقي”.
سوريا: أرض الفرص لمن يؤمن بها
بعد سنوات من العمل في جنوب النرويج، أصبحت سمية آدن تقود مجموعة من المشاريع الريادية في مجال التجارة الإلكترونية، من أبرزها مشروع “نوم نامي” (Num Nummy) الذي يقدّم أغذية طبيعية للأطفال، ويعتمد على الإنتاج المحلي المستدام، إلى جانب مشروع “كيديفيرس” (KiddieVerse) الذي يُعرض سنوياً في المعارض الأوروبية المتخصصة بريادة الأعمال والمنتجات التعليمية.
ورغم نجاح هذه المبادرات، ترى سمية أنها مجرد خطوات تمهيدية نحو هدف أكبر تسعى إليه بشغف: الاستثمار في سوريا، تقول بابتسامة دافئة تعبّر عن عمق الانتماء: “فكّرت بسوريا لأنها المكان الوحيد الذي شعرت فيه بالانتماء الكامل، فهي ليست مجرد بلد، بل ذاكرة كاملة”.
الشباب السوري قاعدة صلبة للنهوض
ترى سمية آدن أن الاقتصاد السوري، رغم ما يواجههه من تحديات وضغوط، لا يزال يمتلك أساساً بشرياً متيناً يمكن أن يشكّل نقطة انطلاق حقيقية نحو التعافي، وتؤكد بثقة: “أؤمن بأن سوريا قادرة على النهوض من جديد إذا توفرت فرص حقيقية للشباب، حيث إن القوة البشرية الشابة تتجاوز 60 بالمئة من السكان، هذه قاعدة صلبة لأي نهوض اقتصادي مستقبلي”.
وترى أن التحول الرقمي والتجارة الإلكترونية يمثلان المسار الأكثر أماناً وواقعية لجذب رؤوس الأموال والمواهب من الداخل والخارج إلى سوريا.
وتقول: “القطاع الذي أطمح للاستثمار فيه هو التجارة الإلكترونية، لأنها الأسرع نمواً على مستوى العالم، وتمثل أكثر من خمس مبيعات التجزئة عالمياً”، وتضيف: إن هذا القطاع يتيح للأسواق النامية تجاوز التحديات التقليدية، مثل ضعف البنية التحتية أو الحاجة إلى رؤوس أموال ضخمة، ما يجعله خياراً استراتيجياً لمستقبل الاقتصاد السوري.
الاقتصاد الرقمي مستقبل التنمية
وتوضح سمية أن السوق السورية لا تزال في مرحلة نمو، والمنافسة فيها محدودة، ما يمنح المشاريع المدروسة فرصة لتحقيق أثر ملموس خلال فترة قصيرة، مشيرة إلى أن اختيارها للتجارة الإلكترونية جاء نتيجة قناعة راسخة بأن الاقتصاد الرقمي هو مستقبل التنمية في الشرق الأوسط، كونه لا يعتمد على البنية الصناعية الثقيلة أو الموارد الكبيرة، بل على الابتكار والمرونة في التفكير.
وتشير سمية إلى أن التجارة الإلكترونية تفتح آفاقاً واسعة أمام الشباب السوري للعمل من منازلهم في مجالات متعددة مثل التسويق، التصميم، البرمجة، إدارة المحتوى، وخدمة العملاء، معتبرةً أن هذه المجالات تمثل فرصاً حقيقية لتقليل البطالة وربط السوريين بالعالم.
دروس من النرويج إلى سوريا
لا تنكر سمية آدن أن الطريق نحو تحقيق رؤيتها طويل ومليء بالتحديات، لكنها ترى في كل خطوة تجربة تستحق العناء، وتعتبر أن سنوات عملها في النرويج شكّلت مدرسة عملية في مفاهيم الشفافية، والإدارة، والتنظيم، حيث تعلّمت أهمية النظام واحترام الوقت، وكيف يمكن للهوية البصرية والعلامة التجارية أن تصنع فارقاً حتى في المشاريع الصغيرة.
أما عن الفشل، فهي لا تخشاه، بل تحتضنه كجزء من هوية النجاح، تقول بثقة: “لا يوجد نجاح بلا إخفاقات، كل تجربة فاشلة تمنحنا بيانات لفهم السوق أكثر، الفشل ليس نهاية الطريق، بل خطوة نحو النجاح إذا استُفيد منه”.
مشروع رقمي لتعريف العالم بسوريا
تتخيّل سمية آدن مشروعها في سوريا كمنصة رقمية مبتكرة تجمع المبدعين الشباب من مختلف المحافظات، وتمنحهم الأدوات لإطلاق متاجر إلكترونية تُعرّف العالم بالمنتجات السورية المحلية، من الحرف اليدوية إلى الأزياء والأطعمة التقليدية.
وتختتم سمية حديثها برسالة تعبّر عن جوهر رؤيتها: “سوريا اليوم بحاجة إلى من يؤمن بها لا من يرثيها، إلى من يرى فيها أرض الفرص لا أرض الأزمات، وأنا واحدة من الذين يؤمنون بأن المجتمع قادر على النهوض من جديد، خطوة بخطوة، فكرة بعد فكرة، ومشروعاً بعد مشروع”.
وفي الوقت الذي يتراجع فيه رأس المال التقليدي عن السوق السورية بسبب التحديات الاقتصادية، يبرز جيل جديد من روّاد الأعمال الشباب، كثير منهم من أبناء الجاليات السورية والعربية في أوروبا ممن يرون في التحول الرقمي فرصة لبناء اقتصاد أكثر مرونة، وأقل اعتماداً على البنى التحتية التي أنهكتها الحرب.
بالنسبة لسمية التي تمزج بين خبرتها الأوروبية وانتمائها السوري العميق، لا يبدو الاستثمار في سوريا مجرد مغامرة اقتصادية، بل هو عودة رمزية إلى الجذور، ومحاولة لإعادة تعريف النجاح في زمنٍ يتراجع فيه كل شيء، عدا الأمل.