وقائع تموز في الذاكرة القومية-البعث

لا أعتقد، على مدى العقود التسعة السالفة من عمر تاريخنا، أن شهراً احتضن من الأحداث الجسام، ذات الأبعاد، والأمداء الوطنية، والقومية، كما احتضن شهر تموز، فقد شهد تموز 1920 الإرهاصات الأولى لمعركة الجلاء الأغر، في ميسلون غرب دمشق، والتي كانت في مواجهة زحوف الجيوش الفرنسية القادمة من لبنان بقيادة الجنرال- غورو- صاحب أوسمة- القتل والدمار- في الحرب الكونية الأولى!!. وقد سبق هذا الزحف الاستعماري الفرنسي إنذار للحكومة السورية- الفيصلية- بتسليم سيادة سورية للفاتح الفرنسي دون اعتراض!! وبعد اجتماع للحكومة بزعامة الملك فيصل بن الحسين الذي توّج ملكاً على سورية في الثامن من آذار، واتخاذ قرار “الاستسلام” بعدما رأى أن المقاومة إنما هي انتحار!!.. انتصب بين الوزراء الحضور مارد عربي سوري هو القائد يوسف العظمة، وزير الحربية آنذاك، مستأذناً مليكه بالقول: سيدي إنني قررت الانتحار كي يقول التاريخ في يوم قادم: «ما دخل المستعمر الفرنسي سورية إلا على أجساد أبطالها»، وكانت المعركة غير المتكافئة، رجالاً وسلاحاً وعتاداً، واستشهد البطل العظمة الذي وصفه يومها أمير شعراء العرب أحمد شوقي بقوله: (أقام نهاره يلقي ويلقي       فلما زال قرص الشمس زالا

فكفّن بالصوارم والعوالي  وغيّب حيث جال وحيث صالا).

وكان ولايزال أول وزير حربية في التاريخ يستشهد بين جنوده في الميدان، فأصبح اسمه مثلاً، وأيقونة نضال نستخدمه عنواناً، ومطلعاً لكل حديث عن صمود سورية، وبطولات جيشها الذي يجدد في كل يوم أكثر من “ميسلون” في مواجهة الغزو التكفيري الإرهابي الوهابي القائم، والقادم من أربع جهات الأرض.

وفي السابع عشر من هذا الشهر المبدع في عطاءاته الفدائية، كان الإعلان عن الثورة السورية الكبرى عام 1925 التي تلاقت طلائعها الجهادية في السواحل، والسهول، والجبال، والبوادي بقيادة المغفور له سلطان باشا الأطرش، القائد العام للثورة، ورفاقه على امتداد الدار السورية، والشيخ صالح العلي، وحسن الخراط، وإبراهيم هنانو، وأحمد مريود، يواكبهم مفكرو الثورة، ومثقفوها، وطليعتهم فارس الخوري، وعبد الرحمن شهبندر، وشكيب أرسلان، وغيرهم.

وقد كان تموز -غرفة العمليات- التي أعدّت لأشهر معارك الجلاء، وهي معركة المزرعة في جبل العرب، والتي واجه فيها الثوار زحوف الجيوش الفرنسية بقيادة ميشو، المزودة بالطائرات، والدبابات، والمدافع ، والأسلحة المعروفة في حينها، والتي سبق لها أن جُربت وفتكت في الحرب العالمية الأولى.

وكان النصر حليف المجاهدين الذين جعلوا شرار المعركة ينتقل ليحدث الحريق الهائل في وجه المستعمر الفرنسي في الغوطتين، وحماة، وحمص، وحلب، والفرات، والساحل، والجولان، وقد كتب مراسل جريدة اللوموند الفرنسية الشهيرة، والذي زار أرض المعركة، والدخان لايزال يتصاعد من الأجساد، والعتاد يقول: «لم يشهد تاريخ الحروب في العالم أشرس قتالاً وأكثف عدد ضحايا في مساحة محدودة من أرض الميدان، كما هي الحال في المزرعة». وقد التقى الصحفي الفرنسي القائد العام للثورة سلطان الأطرش، وسأله عن أسباب الانتصار الذي حققه الثوار، وهم فئة قليلة على الجيوش الفرنسية الجرارة، والتي حُشد فيها مقاتلون من أكثر من عشرين دولة من المستعمرات الفرنسية، فأجابه سلطان باشا: «المسألة في غاية البساطة، سبب انتصارنا عليهم أنهم أولاد – كم – ونحن – أولاد – عم!!.. نحن ندافع عن حقنا، وأرضنا، وعرضنا، وهم يقاتلون مأجورين»!!.

ولعل أبرز مفاخر هذا الشهر ولادة ثورة يوليو التي قادها الزعيم الخالد جمال عبد الناصر في أرض الكنانة، والتي أنعشت الوجدان القومي في -المحروسة- وأعادت لشعبنا العربي في مصر أصالته، ورسالته، ودوره المفتاحي في أحداث المنطقة، والذي عبّر عنه فارس الثورة، وحارسها القائد عبد الناصر، غداة التوقيع على ميثاق الوحدة في دمشق بين سورية ومصر، يوم قال: «إن الجمهورية العربية المتحدة دولة كبرى في الشرق الأوسط تحمي ولا تهدد، تصون ولا تبدد، تشد أزر الصديق، ترد كيد العدو، تريد الحياة لها، ولغيرها، وللبشرية جمعاء»، وخاطب بعدها الفلاح، والعامل، والمثقف في مصر والشام بقوله: «ارفع رأسك يا أخي، فلا اقطاع، ولا استعمار، ولا استعباد، ولا ذل بعد اليوم».  وفي العراق الشقيق، وعلى وهج ثورة -يوليو- وقيام دولة الوحدة بين سورية ومصر، تحرك شعبنا، وجيشنا في العراق ليصنع ثورة الرابع عشر من تموز 1958، والتي دكّت قواعد -حلف بغداد- الاستعماري الصهيوني، وقضت على عملائه في أرض الرافدين.

وإذا سُئلت: متى كُسرت شوكة إسرائيل، وتقهقرت مدحورة من أرض عربية سبق لها أن احتلتها، فقل لهم، إنه العام /2000/ غداة هُزمت في جنوب لبنان بعدما استعصت على القرار الأممي /425/، واستكمل هذا الإنجاز غير المسبوق في تموز /2006/، وفي الجنوب البطل أسطورة الصمود والفداء عبر أيامه الـ /33 / التي كان ليلها الأطول في تاريخ الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين منذ انزراعه سرطاناً في قلب المنطقة قبل ستة وستين عاماً.

فقد أكد سيد المقاومة حسن نصر الله، وحامل النصر الأول الناجز في مواجهة العدو الصهيوني، بعد بطولات حرب تشرين التحريرية، أن نصر المقاومة في الجنوب، كانت سورية، قيادة، وشعباً، وجيشاً في جذره، وفرعه، ولحمته، وسداه، وأن الصواريخ التي زلزلت العدو الصهيوني إنما كانت صناعة سورية بامتياز، وأن ما قام به الشعب السوري من احتضان لإخوته اللبنانيين الذين استضافهم طوال فترة الحرب، يصح أن يكون درساً في الدعم، والإسناد عند اشتداد الصراع، وهبوب العواصف على مختلف المستويات.

لقد أسس انتصار المقاومة في لبنان في مواجهة طاغوت الصهيونية لأمرين اثنين: الأول: أن لبنان لم يعد قوياً بضعفه، بل بمقاومته، وشعبه، وجيشه، والثاني: أن العين المؤمنة قادرة أن تحطم المخرز المعادي، والظالم، وها هي مواقع مارون الراس، وكفرشوبا، وقلعة الشقيف، والضاحية الجنوبية خير شاهد.

وتأتي غزة هاشم هذه الأيام لتؤكد أنها درع المقاومة الذي لا يخترق، وسيفها الذي لا يفل، فبعد الصمود المدهش عامي 2008-2009، ها هي غزة تدير، في تموز، معركة الكرامة بكفاءة مذهلة، “صموداً على الأرض، ومواجهات بسلاح المفاجأة” التي جعلت مواطني العدو يتحالفون مع الجرذان في الأقبية المعتمة خوفاً من صواريخ المقاومة التي دكّت مواقع العدو في تل أبيب، ونهاريا، ومطار بن غوريون، حتى محيط مفاعل ديمونة النووي، حيث لم يعد مكان في إسرائيل في حصن أمين من صواريخ المقاومة، وطائراتها الالكترونية. إن سورية التي أعلنت عبر مختلف القيادات السياسية، والحزبية، والشعبية إدانتها واستنكارها للعدوان الصهيوني على غزة، وإسنادها  غير المحدود لشعبنا الفلسطيني، فإنها تؤكد من جديد أن جراحها النازفة، مهما اتسعت فوهاتها لن تجعلها تغفل لحظة واحدة عن ثوابتها العريقة، والعميقة المتمثلة بالقضية المركزية للأمة العربية، فلسطين. وقد أثبتت الوقائع أن مؤامرة الربيع إنما هي صناعة أمريكية صهيونية وهابية بامتياز، وأنها مكرّسة لخدمة الصهيونية، وحماية كيانها الغاصب، وأن سورية، وهي تواجه الإرهاب التكفيري الوهابي، إنما تدافع عن فلسطين، وغزة، والقدس، كما تدافع عن أي شبر من سورية، لأن العدو واحد اليوم، وغداً، وحتى النصر في التحرير، والعودة، وتكنيس الإرهاب وداعميه من الأرض العربية إلى الأبد.

بقلم: د. صابر فلحوط