الشريط الإخباري

ترنيمة نيغال في أوغاريت… أول تدوين موسيقي عرفته البشرية وسبق سلم فيثاغورث بألف عام

دمشق-سانا

رقيم طيني صغير لا يتجاوز حجم قبضة اليد، صحح تاريخ التدوين الموسيقي في العالم، وأعاده إلى مهده الحقيقي في مملكة الحرف والموسيقا والحضارة أوغاريت، التي لطالما أبهرت البشرية بكنوزها وحضارتها.

ولم يقف ما قدمته مملكة أوغاريت للبشرية عند الأبجدية والختم الأول، وإنما تعتبر المؤسس الحقيقي للموسيقا الغربية، من خلال أقدم القطع الموسيقية المدونة في العالم التي اكتشفت فيها وتعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد، سابقة بذلك سلم فيثاغورث بألف سنة كاملة.

ففي الوقت الذي تشير فيه الأبحاث الغربية في التاريخ الموسيقي إلى أن أقدم قطعة موسيقية عرفها العالم هي قطعة “أوريستيس”، التي ألفها أعظم شعراء المأساة الشاعر اليوناني يوروبيدس، وأن “السلّم السباعي” الذي تحدث عنه فيثاغورث في العام 500 قبل الميلاد هو أساس السلم الموسيقي المعروف عالمياً، يأتي اكتشاف الرقيم الطيني في مملكة أوغاريت السورية ليغير تلك الحقائق، ويؤكد أن أقدم تدوينة موسيقية عرفها التاريخ مهدها مدينة أوغاريت قبل (3400) عام من وقتنا الحالي.

تلك التدوينات الموسيقية الفريدة التي دوّنت حوالي عام 1400 قبل الميلاد، واكتشفت عام 1948 في مدينة أوغاريت، قام بفك رموزها الكاتب ريتشارد دمبريل صاحب كتاب “آثار علم الموسيقا في الشرق الأدنى القديم”، وتضمنت مجموعة موسيقية تحتوي 36 أغنية أطلق عليها اسم “الأغاني الحرانية”، وحفرت بالخط المسماري على ألواح من الطين.

وكانت أكثر تلك التدوينات الموسيقية تميزا ترنيمة “نيغال” آلهة القمر الحزين التي وجدت بشكل شبه كامل، وتعكس روح الموسيقا الأوغاريتية، كأقدم عمل موسيقي عرفته البشرية، وجاء فيها: سأرمي عند قدمي الحق أو قدمي عرشك المقدس خاتم رصاص

سوف أتطهر؟ وأتغير من بعد الخطيئة

لم تعد الخطايا تغطيها ولا حاجة أكثر إلى تغييرها

قلبي مطمئن بعد أن أوفيتُ نذري

سوف تعزني مولاتي

ستجعلني عزيزاً على قلبها

فنذري سيغطي ذنوبي وسيحل زيت السمسم بدلاً مني

في حضرتك اسمحي لي، إنك تجعلين العاقر خصيبة والحبوب تعلو صعوداً

إنها الزوجة التي ستحمل الأطفال إلى أبيهم

هي التي إلى حد الآن لم تُعطِ أطفالاً تحمِلهم.

وأوضحت الأديبة والباحثة راغدة شفيق في تصريح لـ سانا أن هذه الترنيمة التي ألفت على شواطئ البحر الأبيض المتوسط دونت على لوح طيني مستطيل الشكل، بطولِ سبعة إنشات ونصف، وعرض ثلاثة إنشات، وجاءت في الأسطر الأربعة الأولى تراتيلٌ قديمة، ثمّ ترك عليها خطان أفقيان، لتأتي بعدها ستة أسطر كرموز وإشارات تحكي قصة امرأة جميلة حزينة تزوجت من إله أوغاريتي، فلم ترزق بأطفال، وأصبحت كأرض قاحلةٌ، فتضرعت للسّماء لتمنحها الخصب والبذار، فتزهر وتتجدد الحياة.

ولفتت الباحثة شفيق إلى أن هذا اللوح الطيني بقي لغزاً محيّراً لسنواتٍ من البحث والدراسة، حتى تكشفت رموزه كتجارب موسيقية عزفت على أهم المسارح العالميّة.

وحول المعاني التي حملتها كلمات ترنيمة نيغال، قالت شفيق: “إن تلك المرأة التي زارت الآلهة المقدسة اختارت خاتم رصاص لتلقيه عند قدميها، لما له من دلالات على سلطان فيه مرض أو سلطان ضعيف، فهي تعترف بضعفها ووهنها أمام الآلهة المقدسة، علما أن هذا الموروث المجتمعي لا يزال ساريا ليومنا هذا لدى شعوب المنطقة، حيث يستخدمون الرصاص لطرد الحسد والعين وإبعاد المرض”.

بدوره أوضح الباحث في الآثار الدكتور بسام جاموس أن الرقيم المكتشف واحد من 36 رقيماً مكتوباً بالحرف المسماري، وجدتها البعثة الفرنسية خلال التنقيبات الأثرية في أوغاريت عام 1948 مؤرخة في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، استناداً إلى الطبقة الأثرية التي وجدت فيها.

وبين الدكتور جاموس أن هذا الرقيم كان وحده سليما تقريبا من بين كامل المجموعة، وأمكن قراءة الجزء الأكبر منه، وهو اليوم محفوظ في متحف دمشق الوطني، وتم ترقيمه “اتش- 6” أو “ح – 6″، حيث الحرف “اتش” أو “ح” هو الحرف الأول من كلمة حوري وهي اللغة التي كتبت بها هذه الرُّقم.

وحول ما تضمنه الرقيم، لفت جاموس إلى أنه تم تقسيمه إلى جزأين بواسطة خطين عرضيين محفورين فيه، يحتوي الجزء الأعلى منهما عبارات شعرية تشكل نشيداً باللغة الحورية، وتستمر كتابة كل خط منها على قفا الرقيم، بينما تضمن الجزء الأسفل ستة أسطر مدرج عليها كتابات مقطعية باللغة الأكادية، مبيناً أنه استغرق فك شيفرته وقتاً طويلاً بسبب الغموض الذي اكتنف هذه الرموز، التي هي عبارة عن أرقام وإشارات وفق متتالية، ليتبين بعد بحث دام لسنوات طويلة أنها تنويط موسيقي.

ولفت جاموس إلى أنه تم توثيق المقطوعة من خلال عدة دراسات قام بها مختصون، كان أولهم عمانويل لاروش، ونشر بحثاً عنها في مجلة أوغاريتيكا، وهي عبارة عن ترنيمة مخصصة للآلهة نيغال، كتبت باللغات الحورية والأكادية والأوغاريتية بأسلوب شاعري عبر عن الحب والأحاسيس المرهفة، وخاصة الجزء العلوي من النص الذي كان باللغة الحورية، بينما تضمن الجزء السفلي التنويط الموسيقي باللغة الأكادية التي كانت لغة المراسلات الدولية.

وأوضح جاموس أن النوتة عبارة عن حروف وعلامات وأعداد، حيث كان أول من قام بتنويطها العالم الإنكليزي ديفيد ولستان الذي اعتمد في دراستها على المقارنة مع اللوحات المسمارية المكتشفة في مواقع بلاد الرافدين، وخاصة فيما يتعلق بالأحرف والإشارات والأعداد، لكنه لم يستطع التوصل إلى النتائج النهائية، وخاصة فيما يتعلق بعدم تطابق اللحن مع الكلمات، وتعثره في إيجاد تفسيرات واضحة لمقاطع اللوحة، لتأتي عالمة الآثار الأمريكية “آن كيلمر” بمحاولة أخرى لتفسير اللوح الموسيقي، لعدم قناعتها بما قدمه ولستان، فقامت بتنسيق مقاطع اللحن المدون، إلا أنها أيضا لم تصل إلى النتائج المرجوة، وتعثرت في تقسيم الأبيات الشعرية والتنويط الموسيقي.

وبعد تعثر العالمة كيلمر في تقسيم الأبيات الشعرية والتنويط الموسيقي، تعاونت مع العالم والباحث الأمريكي “ريتشارد كروكر”، وصنعا كنّارة شبيهة بكنّارات بلاد الرافدين وخاصة كنّارة مدينة أور العراقية، وذلك لإجراء تجربة تلحين سلم النوتة، وبعد أكثر من عشر سنوات قدم “كروكر” معزوفة الترنيمة أمام الجماهير والمختصين في إحدى الجامعات الغربية، وسجلها على أسطوانة ونشرها ووزعها عام 1975، وفقا للدكتور جاموس.

وبين جاموس أن الباحثة البلجيكية المختصة “ميشيل كيما” أيضاً قدمت تجربتها في دراسة النوتة، الأنشودة الأعجوبة، عن طريق إضافة وزيادة علامات موسيقية على علامات النوتة، لكنها أيضاً لم تصل إلى النتائج المرجوة إلى أن جاء ابن اللاذقية “راؤول فيتالي” المختص بالعلوم الفيزيائية والرياضية والدراسات الموسيقية، ليكون أول من عارض الدراسات التي سبقته من خلال الدراسات المقارنة، وخاصة المتعلقة بالعلامات الموسيقية والسلم الموسيقي، مؤكدا للعالم أن هذا التنويط الموسيقي سلمه شرقي، بعد أن أجرى المطابقات اللازمة على كل بيت على حدة من النوتة، من خلال تقسيم النشيد إلى ستة أسطر، ليستطيع أن يقدم للعالم ثورة معرفية في عالم الموسيقا، بعد أن نجح في تنويطها وعزفها على مقام “نيد قبلي المماثل لمقام كرد”.

وقد أثارت هذه التدوينات الموسيقية موجة كبيرة من الاهتمام لدى الموسيقيين، وحظيت بترجمات عديدة، منها للعالم ديفيد ولستان ومارسيل دوشين جيومان وآن كيلمر، ما يؤكد الأهمية الكبيرة التي قدمتها أوغاريت للبشرية، حيث إن ما يزيد على خمسين جامعة حول العالم تدرس طلابها أبجدية أوغاريت.

وحول الآلات الموسيقية التي كانت موجودة في مملكة أوغاريت، لفت الباحث الموسيقي زياد العجان إلى الناي المصنوع من القصب الذي أعطاه الأوغاريتيون أهمية في صناعاتهم المختلفة، وآلة تشبه العود مصنوعة من القرعوش، عليها أوتار مشدودة مصنوعة من أمعاء الحيوانات، والتي تعتبر لغاية الآن أجود أنواع الأوتار، موضحا أنه تمّ وضع 3 أوتار عليها، الأول مدوزن على الـ “دو” والثاني على الـ “ري” والثالث على “الصول” بترتيب سبق فيثاغورث بـ 900 سنة، إضافة إلى آلة الكنّارة أو القيثارة التي يتم العزف عليها بالأصابع.

ولفت العجان إلى أن الموسيقا اليونانية بقيت بداية للتاريخ الموسيقي، وخاصة فيما يتعلق بسلم فيثاغورث 500 عام قبل الميلاد وأقدم مقطوعة موسيقية عرفها الغرب من خلال مسرحية يوربيدس التي ألفها بنفسه، إلى أن جاء الاكتشاف العظيم في أوغاريت “اللوح الموسيقي”، وغير هذه المسلمة التاريخية، مؤكدا أن موسيقا أوغاريت أقدم بألف سنة من نظيرتها اليونانية، ولا سيما أن ترنيمة نيغال الأوغاريتية اشتهرت في العالم، وتوزعت موسيقاها وأصبحت تدرس في المعاهد والجامعات المختصة.

فهمي الشعراوي

متابعة أخبار سانا على تلغرام https://t.me/SyrianArabNewsAgency

انظر ايضاً

موقع تشيكي: أوغاريت قدمت للعالم الموسيقا الأقدم من خلال الترنيمة السومرية رقم 6

براغ-سانا تحدث موقع الشيفرة الإلكتروني التشيكي عن حضارة مملكة أوغاريت في سورية