اتجاهات المشهد مع معركة الشمال وحصاد الأطراف

في إطلالة على الميدان السوري وبخاصة في الشمال، مع ما رافقه وما زال يظهر من مواقف وتداعيات نتيجة الضربة الهامة التي وجهتها القوات العربية السورية والقوى الحليفة للمجموعات الإرهابية المنتشرة بشكل خاص في بعض حلب وريفها الشمالي،يجد المتابع نفسه أمام مشهد فيه الكثير من العبر وانكشاف حقائق لم يكن يؤمن بها إلا العارفون ببواطن الأمور أوالمتتبعون لمجريات الأحداث وتحليلها وفقا لقواعد المنطق والعلوم الاستراتيجية والسياسية الصحيحة.‏

ففي هذه المعركة التي تمكن فيها الجيش العربي السوري والقوات الحليفة تحرير مناطق هامة من الريف الشمالي لحلب تضم اكثر من منطقة وبلدة رئيسية في اقل من 72ساعة، وأن يُحدث واقعاً ميدانياً منفتحا على متغيرات استراتيجية في المشهد كله لجهة السير قدما في إكمال تطويق حلب ومحاصرة من تبقى من الإرهابيين فيها ، والاقتراب من قريتي نبل والزهراء المحاصرتين منذ اكثر من سنتين ووضع مهمة فك الحصار عنهما موضع التنفيذ الفعلي ، والأخطر من ذلك قطع طريق الإمداد الرئيسي الذي يصل حلب وريفها الشمالي بالحدود التركية أي فصل تلك المنطقة عن قواعدها‏ اللوجستية والعملانية القائمة في تركيا بما يؤدي إلى تهميش الأخيرة في المسألة السورية. ولم يغير في عمق هذا المشهد ما قام به الإرهابيون من عودة إلى قرية حردتين ورتيان.‏

وقد أكدت العملية أن الحكومة السورية تمتلك القدرات للعمل على اكثر من خط واتجاه في سبيل إخراج البلاد من المأزق الذي وضعت فيه نتيجة العدوان الذي يستهدفها منذ نيف واربع سنوات ، حيث أنها نفذت في الوقت الذي انفتحت فيه سورية على مبادرة المبعوث الأممي دي مستورا وعملت معه من اجل إنجاح «خطة إخراج حلب من أتون النار» عبر وقف القتال فيها أولا ثم السعي إلى ترتيب ميداني واقعي يعيد الحياة الطبيعية اليها ، لكن سورية لم تقع فريسة المماطلة والخداع الذي يبديه هذا أوذاك من المتدخلين بالشأن السوري بحق أومن غير حق ،وقامت بالتحرك العملاني لأنها لا تأخذ بنتائج التحرك السياسي إلا عندما يكتمل وهي لن تكون مستعدة للقيام بالتزام من طرف واحد تقوم به ويريح الإرهابيين ويعطيهم فرص التحصن في مواقعهم ثم التمدد خارجها ، سواء كان هذا الالتزام من قبيل وقف القصف لمعالجة مصادر النار الإرهابية أومن قبيل تمكين الإرهابيين بالتزود باحتياجاتهم اللوجستية المتنوعة.‏

لقد شكلت المعركة رغم المساحة المحدودة نسبيا التي دارت العمليات العسكرية عليها، اختبارا للأطراف وأخرجت الكثير مما أخفاه أعداء سورية في نفوسهم إلى حد شكل بعضها فضيحة لصاحبه في ذاتها، وهنا نتوقف بشكل خاص عند المواقف الأميركية والتركية التي تلت مباشرة معركة حلب معطوفة على ردود الفعل على النتائج الهامة التي حققها الجيش العربي السوري والقوات الحليفة في الجنوب قبل أسبوع من معركة الشمال.‏

فخلال معركة ريف حلب اندفعت حكومة اردوغان وبشكل هستيري إلى إرسال التعزيزات البشرية واللوجستية للإرهابيين في منطقة عمليات الجيش العربي السوري ، طالبة من الإرهابيين الصمود ثم انتزعت عصا الإمرة وإدارة العمليات منهم وقاد الضباط الأتراك القتال مباشرة على الأرض السورية في مواجهة الجيش العربي السوري ، لان تركيا التي ارعبها ما حققه الجيش هناك ادركت بان استكمال الجيش لعملياته ونجاحه في تحقيق أهداف العملية كلها سيؤدي إلى تهميش الدور التركي في الملف السوري ، والإجهاض النهائي على الحلم العثماني في سورية انطلاقا من مفتاح التحكم الرئيس المتمثل بحلب.‏

فتركيا لم تتدخل في الشأن السورية حبا بهذا الفريق أوذاك من السوريين ولم تكن بصدد نصرة الحرية والديمقراطية في سورية وهي التي أعدمتهما على أراضيها بيد اردغان، ولم يكن تدخلها سابقا وحاضرا إلا من اجل مصلحة استراتيجية تركية أرادت تحقيقها في المنطقة كلها عبر البوابة السورية، لكن استكمال استعادة الجيش لحلب وريفها سيؤكد لتركيا أن الحلم بات من الأطلال التاريخية التي يمكنها البكاء عليها.‏

أما بعد انطلاق المعركة – وهنا الأهم – فقد رضخت تركيا للطلب الأميركي بفتح أراضيها لإقامة معسكرات تدريب عليها تحت عنوان تدريب «المعارضة المعتدلة « وهوالنفاق الغربي الذي لا يصل إلى مستواه نفاق ، لان الكل يعلم أن في سورية اليوم دولة تدافع عن نفسها في مواجهات عصابات إرهابية تبتغي القتل والتدمير خدمة للمصالح الغربية والإسرائيلية ولا يوجد أصلا ما يسمى «معارضة مسلحة معتدلة» فالمعارضة هي الهيئات المدنية التي ترفع مطالب وطنية وترفض اللجوء إلى السلاح وتعمل بالوسائل السياسية السلمية كما هوالحال مثلا في البحرين أما ما عدا ذلك ممن يحمل السلاح بوجه الدولة لا يكون إلا مجرما أوإرهابيا. ومع ذلك تصر أميركا على القول بانها تدعم «المعارضة المعتدلة» وتقاتل الإرهاب المتمثل بداعش حسب زعمها. ولكن حتى في هذا فان أميركا غير صادقة وتمارس التضليل حتى على شعبها على حد ما قال السيناتور الجمهوري سكوت بيري « إن إدارة باراك أوباما، تفتقد الاستراتيجية لمواجهة داعش وقد أشاحت بوجهها متعمدة عن حقيقته، وأنها ضللت الأمريكيين بخطواتها “كما فضحها أيضا الجنرال الأميركي كلارك القائد العام السابق للحلف الأطلسي الذي كشف أن أميركا هي من أنشأ داعش ليقاتل حزب الله.‏

لقد أذعنت تركيا للطلب الأميركي مع علمها الأكيد بأن من سيتم تدريبهم بالغا ما بلغ عددهم لن يستطيعوا تحقيق حلمها بإسقاط سورية وإقامة حكم تابع لها فيها فالأمر عفا عليه الزمن، وانهم لن يكونوا بإمرتها في أي حال، ولن يقاتلوا «العدو» الذي تحدده هي وهوالجيش العربي السوري وحلفاؤه بشكل حصري. فأميركا هي صاحبة القرار وهي التي تحدد وجهة استعمال المرتزقة الذين سيتم إعدادهم على يد المارينز، أي أن المعسكرات التركية لن تكون في خدمة الأحلام الاردغانية، وهذا ما يرعب تركيا التي تجد نفسها تخسر في سورية كل شيء واقعا وأحلاما، وتشتد عزلة حكومتها الاردوغانية الإخوانية داخليا وإقليميا ودوليا، أي أن سورية التي شاءتها تركيا مدخلا لحكم المنطقة، أضحت القلم الذي يشطب تركيا عن خريطة القوة والتأثير في المنطقة…‏

أما على المقلب الأميركي فيطرح السؤال أيضا: هل أميركا مقتنعة بان من ستدربهم في تركيا وغيرها (الأردن وقطر والسعودية) سيغيرون المشهد وسيحققون لها حلمها بوضع اليد على سورية؟ بالتأكيد لا، وأوباما نفسه صرح بذلك منذ أشهر معلنا بان إسقاط الرئيس الأسد هوضرب من الخيال، إذن لماذا التدريب والإمعان بتسعير النار في سورية؟‏

هنا يستوقفنا قول للرئيس أوباما نفسه وقد أطلقه في اليوم الذي وقعت فيه أميركا مع تركيا اتفاق التدريب، حيث جاء فيه “الحرب في سورية لا تنتهي إلا إذا بدأ مسار الحل السلمي الشامل»، أي انه يسلم وضوحا بان لا مقدرة له على حسم عسكري في سورية وهوتصور منطقي فالجيوش التقليدية الأجنبية لن تجد طريقا لها للميدان السوري والعصابات الإرهابية ثبت فشلها وعجزها عن تحقيق الإنجاز كما أن فورد السفير الأميركي السابق في دمشق يؤكد أيضا عدم الجدوى العسكرية من تدريب وتسليح ما يسمى معارضة ، فلماذا إذن التدريب ومواصلة القتال؟‏

إننا نرى أن أميركا وهي على عتبة الاتفاق النووي مع إيران، تتحضر جديا للدخول في تسويات وحلول سياسية لملفات أخرى في المنطقة، وهي كدولة عظمى لا يمكن أن تعترف بعجز في أي ميدان يشكل محلا لهذه الملفات لذلك فإنها تلجأ إلى جمع أوراق القوة ميدانيا ونفسيا من أجل الضغط على الخصم قبل حلول موعد التحلق حول طاولة التفاوض للحل.‏

لذلك نعتقد بان أميركا المقتنعة بانها لن تستطيع الانتصار في سورية والعراق وأن منتجها المسمى «داعش» لم يحقق لها ما أرادت وأن محور المقاومة يحقق الإنجازات على أكثر من اتجاه وملف، لذا رأت أن تستمر في إدارة حرب الاستنزاف مصحوبة بحرب نفسية تهول بها على خصومها لانتزاع أكبر قدر من المكاسب ويكون مشروع التدريب والتهويل بطول أمد الحرب جزءا من هذه السياسة التي تعول عليها أميركا لحفظ مصالحها وحدها. أما التابعين أمثال تركيا ودول الخليج وأروبا فلن يكون لهم في الحصاد شيء يرضون النفس به، هذا إذا لم يكونوا هم عرضة للعقاب لعجزهم عن تحقيق الانتصار الذي أرادته أميركا.‏

بقلم: د. أمين حطيط