الجيوسياسية الأمريكية و”يهودية إسرائيل”

أدخل الاستراتيجيون الأمريكيون قبل ثلاثين عاماً إلى دائرة الجيوسياسة مفهوم “الشرق الأوسط الكبير” الذي يعني الفضاء الممتد من المغرب العربي غرباً حتى بنغلادش شرقاً، وأدرجوا هذه المنطقة الواسعة في قمّة أولويات المصالح الأمريكية.

وفي عام 2006 عاد المصطلح إلى العلن بثوب آخر عندما أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية وقتها كوندوليزا رايس عن ما وصفته بـ”الشرق الأوسط الجديد” الذي يهدف إلى إعادة رسم حدود الشرق الأوسط من لبنان وحتى أفغانستان عبر ما سمي بـ “الفوضى البناءة”.

وفي العام ذاته، نشرت المجلة العسكرية الأمريكية خارطة للشرق الأوسط المقترح،  وكان وضعها الكولونيل الأمريكي رالف بيترس وتم تداولها على نطاق واسع في الأوساط السياسية والعسكرية الأمريكية، وذلك بهدف تحضير الرأي العام الأمريكي والدولي لتقبل خطوات قادمة من المزمع إجراؤها في المنطقة، وهي خطوات أخذت، بعد سنوات، شكل ما سمي بـ”الربيع العربي” الذي مثل فرصة تحرّك من خلالها الأمريكيون لتطبيق مخطط تفتيتي للمنطقة.

ولقد برز السؤال الملح حينها، أين موقع ومصالح إسرائيل مما يجري؟! وتصدر السؤال جدول أعمال صناع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي الاشتغال على جواب لهذا السؤال، فقد جرى تسويق إسرائيل كضحية للأحداث المتسارعة، وتوجيه الآلة الإعلامية الغربية والمرتبطة بها في المنطقة بضخ تهديد قاتل مزعوم تتعرض له إسرائيل، وتم ، بشكل مقصود، إغفال دور إسرائيل الجوهري في الأحداث التي زعزعت الوضع في الدول العربية وإشعال الحرب في سورية تحديداً، ولم يخف بعض الإسرائيليين هذا الأمر، فالحاخام الصهيوني المتشدد وصاحب النفوذ الكبير في السياسة الإسرائيلية أفراهام شموليفيتش كان أكد مصلحة إسرائيل في إشعال الفتن في المنطقة وتقسيم دولها، واعتبر ما سمي “ربيعاً عربياً” نعمة لإسرائيل، وكتب يقول: “إن العالم الإسلامي سيغرق في الفوضى، وسيكون ذلك عاملاً إيجابياً بالنسبة لليهود، وستتيح الفوضى أفضل وقت للسيطرة على الوضع وتطبيق النظام الحضاري اليهودي” ويتابع:” الآن يدور الصراع حول من سيصبح القائد الروحي للإنسانية، روما الجديدة، أي إسرائيل، الآن نحن يجب أن نفرض سيطرتنا الكاملة بقوتنا، نحن لن نشتري فقط النخبة العربية، بل سنطعمها بأيدينا ونقوم بتربيتها” ويواصل:”الإنسان الذي يريد أن يحصل على الحرية يجب في نفس الوقت أن يتلقى التعليمات حول كيفية استخدام هذه الحرية، وهذه التعليمات سنكتبها نحن اليهود للبشرية، والازدهار اليهودي يجب أن يأتي من نار الثورات العربية”.

وهذا يعني ضرورة وصول إسرائيل إلى حدودها الطبيعية بين النيل والفرات التي حددتها التوراة، وبعد ذلك يجب الانتقال إلى المرحلة الثانية وهي الهجوم، التي تتضمن توسيع الهيمنة الإسرائيلية على كل منطقة الشرق الأوسط.

لقد كان شموليفيتش أكثر من واضح حين كشف أن الفوضى التي تعم المنطقة يجب أن تؤدي إلى تفكيك دولها بالتتابع، بدءاً من سورية مروراً بجميع الدول العربية ووصولاً إلى أفغانستان والقوقاز الروسي.

وكان يمكن اعتبار ما تحدّث به شموليفيتش مجرد رأي فردي، لو لم يكرر ما ورد في ما سمي الخطة الاستراتيجية الصادرة عام 1982 المعروفة باسم خطة “إينون” التي تهدف إلى تحقيق التفوق الإقليمي الإسرائيلي من خلال زعزعة استقرار المنطقة وتفتيتها عبر ما وصف بتجزئة الدول العربية المحيطة لإسرائيل كما حصل في يوغسلافيا السابقة..

واعتبرت هذه الخطة جزءاً من الاستراتيجية الإسرائيلية، ووردت في وثيقة أعدها الصحفي الإسرائيلي “عوديد إينون” قبل أن تتبناها وزارة الخارجية الإسرائيلية، وكانت نشرت لأول مرة في شباط عام 1982 في مجلة “كيفونيم” التي يصدرها القسم الإعلامي للمنظمة الصهيونية العالمية، ونشرت ترجمتها رابطة الجامعة العربية الأمريكية في ذات العام، بقلم الكاتب الإسرائيلي المعروف إسرائيل شاحاك مرفقة بتعليقات له حول هذه الوثيقة، وأعيد، بعد سنوات، نشر الترجمة في تشرين الأول عام 2013 على موقع خوسودوفسكي الذي قدّم للوثيقة المذكورة بقوله: هذه الوثيقة تتعلق بإقامة “إسرائيل العظمى” وهي حجر الزاوية للصهيونية المؤثرة التي تتمثل حالياً بحكومة نتنياهو /تكتّل حزب الليكود/ حيث تم توزيعها على النخبة السياسية والعسكرية في إسرائيل”.

وانطلاقاً مما ورد في الوثيقة الصهيونية فإن الحرب الأمريكية على العراق والعدوان الصهيوني على لبنان عام 2006، والحرب الأطلسية على ليبيا عام 2011،  والحرب المتواصلة منذ أربع سنوات على سورية، وعملية تغيير النظام وتنصيب الإخوان المسلمين مقاليد السلطة في مصر، قبل أن يسقطها الشعب المصري في ثورة الثلاثين من حزيران، كل ذلك يجب النظر له كجزء من مشروع غربي صهيوني يقوم على فكرتين أساسيتين هما:

– يجب أن تصبح إسرائيل قوة إقليمية كبرى.

– يجب أن يتم تقسيم جميع الدول المحيطة بها إلى أجزاء صغيرة على أسس مذهبية وطائفية، من شأنها إضفاء المشروعية على السعي الصهيوني لتكريس “يهودية إسرائيل” الخالصة، وهو ما يسعى إليه قادة تل أبيب والحركة الصهيونية بكل قوة من خلال ما يوصل إلى ذلك من إجراءات وقوانين عنصرية غايتها التضييق على الفلسطينيين وإجبارهم على ترك أرضهم ووطنهم.

وتجدر الإشارة إلى أن أفكار إعادة ترتيب دول المنطقة العربية عبر تقسيمها وتجزئتها، التي نص عليها مشروع الشرق الأوسط الجديد الأمريكي وقبله خطة إينون التي ترسم الطرق والأساليب التي يجب أن تتبع لتحقيق انهيار الدول العربية وتقسيمها إلى كيانات صغيرة ضعيفة وتابعة، ليست جديدة وهي موجودة في العقيدة الإستراتيجية الصهيونية منذ ما قبل تأسيس الكيان الصهيوني في فلسطين بكثير، غير أن ما يلفت الانتباه هو الارتباط الوثيق بين الأفكار الإسرائيلية وفكر المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية والتي تتمحور حول ضرورة قيام إمبراطورية إسرائيلية، وتحويلها إلى قوة دولية كبرى.

واللافت أن اينون يرى في وثيقته أن العالم دخل المرحلة الأولى من حقبة تاريخية جديدة، جوهرها انهيار القيم الفكرية والإنسانية التي تشكلت في عصر النهضة في أوروبا، ثم يتطرق إلى أفكار “نادي روما” حول محدودية الموارد على الأرض والتي لا تتلاءم مع الاحتياجات البشرية في ظل زيادة عدد السكان في العالم، ولذلك لا يجب الانتظار لتحقيق الاحتياجات المتزايدة للمجتمع الغربي، أي الرغبة والسعي من أجل تلبية الاحتياجات غير المحدودة.

ولذلك فإن الاتجاه الذي يتبع هنا، لا تحدده الأخلاق بل الاحتياجات المادية، وهذا ما يطبقه الغرب الامبريالي في سياساته التي تعمل لتمكين إسرائيل وافتعال الأزمات والحروب بغض النظر عن عدد الضحايا الذين يسقطون في هذه الحروب، وما تشهده منطقتنا العربية في السنوات الأخيرة إلا مثال واضح.

بقلم د. محمد قاجو

انظر ايضاً

“بايدن” اللطيف.. و”إنسانية” حكومة صاحبة الجلالة!! -بقلم: أحمد حسن

لم يكن عالم الاجتماع الفرنسي “بيير بورديو” يعرف أن عبارته حول وظيفة الإعلام ستصبح شعاراً …