الشريط الإخباري

حماية العربيّة… ضرورة وطنيّة

واجهت لغتنا العربيّة عبر تاريخها الطويل سلسلة من التحديات التي استهدفتها ليس كلغة شفاهيّة وكتابيّة فحسب، بل كمكوّن حضاري هو من أسس الهوية والوعي والثقافة والانتماء، وفي العصر الحديث نذكر مثلاً محاولات الاستعمارين العثماني والفرنسي في هذا السياق.

لكن اللغة العربية تواجه اليوم في أغلب الأقطار العربية تحديات جديدة لا يُستهان بها، وهي ليست ناجمة عن مقابلة اللغات الأجنبية، بل عن زحف العاميّة واللهجات المناطقيّة المحكيّة، إضافة إلى تشجيع القوى المضادة للفكر القومي العربي على إحياء وتعويم ونشر لغات أخرى في سياق مشروع مرتبط بالنزعات الانفصالية، وليس بالتنوع الحضاري الذي نراه كما أكد الرئيس الأسد في الجلسة الحوارية مع الشباب السوري السرياني الكاثوليكي في 4 – 7 – 2019 من حيث “إن المنطق الوطني لا يقبل أقليات وأكثريات كما يحاول الغرب تكريسه، بل تنوّعاً جميلاً وغنى وتجانساً لشعب كان وسيبقى واحداً على هذه الأرض، فالحفاظ على هذا التنوع وإدارته يقطع الطريق على كل أعداء سورية”.

فاللغة العربية اليوم بحاجة إلى حماية من طفو العامية وترويجها على أنها أكثر جاذبية وشعبوية؟!، وعلى أنها تواكب مستلزمات التطور والحداثة والتسويق والإعلان، فشاع في الشارع العربي، وفي وسائل التواصل الاجتماعي ألوان من الترخّص اللغوي، والبعد عن السلامة النحوية واللغوية، واستمرأت الأجيال الطالعة هذا الشائع مقابل تساهل المؤسسات الوطنية والأحزاب والمنظمات والنقابات أمام هذا الخطر الذي يتهدد وجودنا الوطني، والعروبي أيضاً بما فيه من طمس للهوية الوطنية والعروبية ولمكوناتها، في وقت نحن فيه اليوم أحوج ما نكون إلى العين اليقظة أمام مخاطر هذه المظاهر التي ستجعل الأجيال القادمة من التلاميذ، حين تقرأ كتب المدارس، ترى نفسها أمام لغة أخرى بينها وبينها مسافة ليست بالقليلة.

صحيح أن ظاهرة الازدواج اللغوي بين العامية والفصحى مسألة ليست طارئة، وقد قدّم الروّاد في ميدانها المضطرب آراء وأبحاثاً مهمة لا يتسع المجال حتى لاقتضابها، لكن المسألة اليوم أخطر مع التصاق الأجيال بوسائل التواصل الاجتماعي من جهة، بل من جهة ثانية مع الخطط المفضوحة التي أسفر عنها ما سميّ بالربيع العربي والرامية إلى تفتيت الوحدة: المجتمعية  والوطنية والعروبية، وليست اللغة بمنأى عن استراتيجية التفتيت تلك.

فمع انتقال الخطر على الوجود الوطني والقومي من خارج الحدود، إلى داخل الأوطان، وبالأصح في سياق الفكر القومي “الأقطار”، مع هذا الانتقال لم تعد لغتنا تواجه تحدي الفرنسة أوالتتريك مثلاً كالسابق، بل صارت تواجه (الأمر نفسه) تحدّياً داخلياً هو العامية التي تطمح، وبدأت تحقق طموحاتها، إلى أن تكرّس حضورها ليس في الشفاهيّة فحسب بل في الكتابيّة، كأن ندعو إلى فاعلية عنوانها: “فيكن منكبر”، على أنها أكثر جدوى وإقبالاً من “بكم نكبر”.؟!!.. وهكذا.

ولدى متابعة بعض دعايات الإعلان والتسويق التي تركّز على جمال الصور والشباب والشابات واللغة المحكية لاحظنا أن النتيجة كانت نجاح الإعلان فقط، مقابل الإعراض عن المنتَج الذي غالباً لا يكون الهمّ فيه إلا جاذبية الإعلان وليس جودة المنتج وقدرته على المنافسة في السعر وفي النوع. وهكذا الأمر في ….

وهذا لا يعني الدعوة إلى التقعّر اللغوي، ولا العودة إلى المعاجم، والتشدّق بمفردات الأجداد الجزلة الفخمة، لكنه لا يعني أيضاً استساغة ما نراه من ترحّض واستهتار باللغة والنحو واستخدام مفردات مثل “4 أو y … ميرسي كلك زوق”.. إلخ، وصولاً إلى مناقشة الرسائل الأكاديمية باللهجات المحكية والمناطقية.

فلطالما سمعنا وطنيّين وعروبيين يتحدثون ولم نستطع أن نعرف من نطقهم مسقط رأسهم.

الجمهورية العربية السورية ذات تاريخ عريق وأصيل في التأكيد على الوظيفة الوطنية والعروبية للّغة، ففيها أول مجمع للّغة العربية في الوطن العربي مضى على تأسيسه قرن من الزمن عام  (1919) وأول قانون لحماية اللغة العربية ( 1953 ) وأول لجنة للتمكين للغة العربية بالقرار الجمهوري رقم (4) لعام 2007، مع الإشارة إلى الجهود المؤسساتية – المعلّقة حتى تاريخه؟! – في مجلس الوزراء لتجديد قانون حماية اللغة العربية وتطويره عن قانون 1953، كما أن سورية كانت ولاتزال رائدة في تعريب العلوم، وإليها يُشار بالبَنان عربياً وعالمياً في التأكيد على قيمة اللغة في الهوية الوطنية والعروبية.

ومع ذلك نحن اليوم أمام محاولات قد تكون عفوية ترمي بالتدريج إلى تحطيم هذه اللغة ليس بالدخيل ولا بالمعرّب فقط، بل بالعاميّ أيضاً، علماً أننا نسلّم بأهمية اللغة الثالثة التي لم يرَ فيها النهضويون العرب ضيراً، وهي ليست أبداً لغة: قلْ.. لا تقلْ، بل هي “روح العامية وثوب الفصيحة”.

ويُحسم الأمر، بشرف التبصّر وضرورته في أهمية ما أوضحه بالتفصيل السيد الرئيس بشار الأسد حين قال في 1- 3 – 2010:

“يجب إيلاء اللغة العربية التي تربطنا بتاريخنا وثقافتنا وهويتنا كل اهتمامنا ورعايتنا. فهي معنا في مناهجنا وإعلامنا وتعليمنا، كائناً حياً ينمو ويتطور ويزدهر ويكون في المكانة التي يستحقها جوهراً لانتمائنا القومي، وكي تكون قادرة على الاندماج في سياق التطور العلمي والمعرفي في عصر العولمة والمعلومات، ولتصبح أداة من أدوات التحديث ودرعاً متينة في مواجهة التغريب والتشويش التي تتعرض لها ثقافتنا”.

بقلم: د. عبد اللطيف عمران