المهندس توفيق الحلاق.. سبع سنوات ونصف بدرجة امتياز في صفوف الجيش

دمشق-سانا

“متل الليرة طويتها وضبيتها.. جاهزة” يقول توفيق الحلاق بفخر عن آخر بدلة عسكرية كان يلبسها قبل تسريحه بعد سبع سنوات ونصف السنة قضاها على الجبهات مؤديا الخدمة العسكرية الإلزامية آثر الاحتفاظ بـ “البدلة والفيلت والطاقية والرتب مع البوط” رغم استغراب البعض بدعوى أنه لم يعد بحاجة إليها فيجيبهم “البدلة العسكرية غالية على قلبي”.

متنقلا من جبهة إلى أخرى من حلب إلى حمص فإدلب ثم اللاذقية لم تفتر عزيمة توفيق في الدفاع عن وطنه والوقوف بصلابة في وجه الظلاميين التكفيرين الذين أرادوا زرع الخوف والرعب والخراب في سورية الأمان والجمال وها هو اليوم يفخر بأنه أعطى الوطن سنوات ذروة شبابه وهو مستعد كما يقول لتلبية نداء الواجب في أي وقت يحتاجه الوطن “العدوان على بلدنا والتدمير والتخريب شيء يقهر القلب.. كثر من الشباب راحوا شهداء وجرحى.. بالمقابل أشعر بالفخر أنني خدمت وطني في هذه الحرب”.

كغيره ممن أمضى سنوات جنديا مقاتلا يحتضن الخطر ليحمي بلده كان توفيق يترقب قرار التسريح لكن لم تكن الفرحة وحدها تغمر قلبه بأنه يغادر ميدان القتال وقد أدى واجبه الوطني بدرجة امتياز سبع سنوات ونصف السنة.. صور الشهداء من الرفاق ومن تركهم خلفه يقاتلون الإرهابيين هم اليوم لا يغيبون عن ذاكرته.

بين عامي 2012 و2013 بقي توفيق قرابة العام مرابطا على جبهة جسر الشغور- 49 كم غرب إدلب شمال البلاد- “11 شهرا متواصلا لم نحصل على اجازة ننام ونستيقظ ونأكل سويا وجها لوجه 24 ساعة كقبضة يد أمام الإرهابيين.. كنا” يقول توفيق وقد طبع صوته حزن عميق “كيف أنساهم”.

فقد توفيق العديد من رفاقه شهداء لكن الملازم فؤاد صالح من قرى جبل الشيخ كان أقربهم إلى قلبه “شقيقين عشنا.. نتشارك الغرفة ونقطة الحراسة رغم أن ما جمعني بالشهيد فؤاد فترة زمنية قصيرة لكن حزني عليه كان أكبر”.

في تلك البقعة الجغرافية من سهل الغاب بريف حماة الشمالي الغربي المحاذي لريف إدلب الجنوبي في قرية تل واسط من عام 2015 استشهد الملازم فؤاد.. يستعيد توفيق ذكرى استشهاد رفيق السلاح “كان فؤاد على الخط الأمامي للجبهة وأنا خلفه تفصلنا مسافة نحو 2 كم سمعت أنه استشهد لم تتسن لي رؤيته ووداعه”.

لم يكن الشهيد فؤاد وحده من استقر في وجدان توفيق.. ضباط آخرون بعضهم على الجبهة ومنهم من استشهد.. تركوا بما يحملون من قيم إنسانية ووطنية أثرا عميقا في شخصيته “الشهيد النقيب ابراهيم حيدر كان حديث الجميع قبضاي وإنساني” استشهد وهو يدافع عن كلية المشاة بحلب و”الشهيد المقدم علي سلامة مهذب وشهم كان قريبا من الجنود يشعر بهم ويساعدهم” استشهد في جسر الشغور.

على حافة الشهادة مشى توفيق مرات عدة كاد في إحداها أن يعانق الموت في قرية اليعقوبية بإدلب المحاذية للحدود التركية.. يروي “بعد شهرين من صمود أهلها والتصدي لأفواج الارهابيين القادمين من خلف الحدود مع عتادهم الحربي جاء القرار العسكري بإعادة التموضع والتحرك باتجاه قرية الجانودية جنوب اليعقوبية” تحت وابل من الرصاص مشينا مسافة 3 كم وحولنا متوارين بين أشجار الزيتون إرهابيون لا يكفون عن إطلاق النار.. تجنبنا الرد حرصا على المدنيين الذين خرجوا معنا من البلدة.. والطريق زراعي ضيق إذا تعطلت سيارة توقف الرتل كاملا العديد من الجنود والمدنيين استشهدوا والبعض أصيبوا وفقدنا آخرين.. يتابع ويداه بقوة مضمومتان إلى صدره “الموت كان أقرب من أي وقت.. الطلقات تمر على بعد سنتيمترات من وجهي”.

بداية التحاقه بخدمته العسكرية في عام 2012 قضى توفيق دورة تدريبية في حلب بكلية المشاة قرب سجن حلب المركزي وجاءت نتيجة الفرز بحمص وبعد عشرين يوما قضاها في منطقة الدار الكبيرة وضمن فرز ثان حددت خدمته بريف إدلب الشمالي الغربي بمنطقة جسر الشغور في بلدات اليعقوبية وزرزور وملند وهي قرى محاذية للحدود التركية ومنها إلى السرمانية وجورين والزيارة وتل واسط في سهل الغاب بريف حماة الشمالي الغربي ثم إلى كسب بريف اللاذقية.

التنقل من جبهة إلى أخرى سمح لتوفيق بالتعرف أكثر على بلده “اكتشفت الكثير من المناطق الجميلة مثل قريتي اليعقوبية والجانودية ذات الطبيعة الخلابة وكسب وتعرفت من رفاقي على عادات محافظات درعا والسويداء وحلب والرقة ودير الزور”.

في ظل احتدام المعارك تمر أوقات صعبة يقول توفيق “عندما كنا في بلدة اليعقويبة قطع الإرهابيون المياه.. اضطررنا أن نجمع مياه المطر المنزلق في مزاريب اسطح المنازل لنؤمن مياه الشرب والغسيل” إلا أن قساوة ظروف الحرب تتبدد في لحظات إنسانية عندما احتضن أهالي اليعقوبية أبناءهم الجنود كما يقول توفيق “اليعقوبية لم تكن تتمتع بروعة طبيعتها وجوها الجميل إنما بأهلها.. كانوا يحملون إلينا طناجر كبيرة من الرز يتقاسمون معنا ما لديهم من أطعمة حتى عندما نفدت مؤونتهم صرنا بدورنا نوزع ما يصلنا من مواد وخبز بينا وبينهم”.

وفي جوابه من أين كان هو ورفاقه يستمدون القوة مع تكثف الهجمات بين أعوام 2012 و2015 وعلى مختلف الجبهات ومنها في إدلب يقول توفيق “إذا كان أحدنا يائسا بالمقابل يكون رفيقه لديه طاقة ايجابية لم يحدث أن شعرنا بالإحباط جميعا إلا أن الأهل كان لهم مفعول السحر أيضا”.

إضافة إلى الأهل كانت نهلة خطيبة توفيق الموظفة بالهلال الأحمر تشحذ همة خطيبها المقاتل “عندما أخبرها على الهاتف أو الواتس أننا نتعرض لهجوم تردد على مسامعي بعض كلمات دير بالك لا تخاف أنتم قدها.. تبعث بي الشجاعة.. علما بيني وبين نفسي أدرك خوفها لكن لم تكن تظهر ذلك لي”.

فيما كان توفيق يقاتل الإرهابيين في أقصى البلاد على الحدود التركية كانت مدينته يبرود بمنطقة القلمون بريف دمشق تعاني من الإرهاب واضطرت أسرته إلى مغادرتها قبل أن تعود مجددا إليها بعد أن حررها الجيش العربي السوري في آذار 2014 في هذه الظروف كان توفيق هو من يشعر بالقلق على أسرته “كان أخي شفيق خلال سنوات دراسته في كلية الاقتصاد دائم الاتصال بي يشجعني” لكن الشقيقين تبادلا الأدوار في أحد الأيام عندما ذهب شفيق إلى يبرود ليتفقد منزل العائلة في وقت فجر الإرهابيون سيارة مفخخة بالمدينة أخبرني أهلي أن شفيق في يبرود ولا يرد على هاتفه للحظات كدت أجن بقيت أعاود الاتصال به حتى سمعته يقول لي أنا بخير.

حرم توفيق لسنوات من زيارة أهله في بلدتهم يبرود “إذا لم يقتلوني لن يسمحوا لي بالخروج ولذلك في إجازاتي كنت أنزل عالشام وألتقي أهلي عند عمي أو صديقي سعد في جرمانا”.

وعما سيحدث توفيق أولاده مستقبلا يقول: “ما عشناه يصح للأفلام قد لا يصدقون” يتوقف قليلا ثم يأخذ كلامه منحى جديا “سأحكي لهم كيف خدمنا وطننا وكيف عليهم أن يفعلوا ذلك.

هذا واجب مقدس حتى ولو كان ابنا وحيدا يتابع “كل شاب عليه تأدية الخدمة الإلزامية”.

تبرز حساسية توفيق عند الحديث عن المتخلفين عن الخدمة الاحتياطية والإلزامية وهو من أعطى ذروة سنوات شبابه للوطن “أتفهم أحيانا أن يكون أحدهم عنده أكثر من أخ بالجيش أو لديه أكثر من شهيد.. لكن التهرب من الخدمة الإلزامية والاحتياط أمر مرفوض”.

بعد نحو ثماني سنوات في الجيش لا يستغرب توفيق سؤالا حول احتمال استدعائه مرة ثانية في ظل وجود بؤر إرهابية في مناطق أخرى من البلاد يرد دون تفكير “هذا الأمر ببالي.. منرجع”.

توفيق خريج هندسة معلوماتية.. شخصية ديناميكية وقدرة على التواصل ينسج علاقاته ببساطة الحب تساعده عفويته وابتسامة تكاد لا تفارقه في وكالة سانا انخرط سريعا بالعمل مكافحا على جبهة الحياة المدنية “بالجيش لم تكن تشغلنا مصاريف الاعباء المعيشية اليومية.. الحياة صعبة”.

التحق توفيق بالخدمة الالزامية في الرابعة والعشرين من عمره فور تخرجه من كلية الهندسة المعلوماتية بعد أن تم فرزه لصالح وكالة سانا دون أن يختبر العمل فيها ليعود إليها وهو في الثانية والثلاثين من العمر بعد تسريحه من الجيش ويتشارك المكتب مع زملاء مهندسين يقول: “بطبيعتي شخص اجتماعي ومتفائل” يضيف وهو يبتسم “في أول لقاء سألوني إن كنت موظفا جديدا وعندما اخبرتهم بانني كنت عسكري بادروني بمحبة مهنئين الحمد لله على السلامة أهلا وسهلا”.

يعتزم توفيق وخطيبته نهلة في الصيف أن يختما بالزواج قصة حب عمرها أربع سنوات.. ينشغلان حاليا في تدبير أمورهما لحياتهما الجديدة أما حفلة الزفاف فتركا قرار إقامتها لحينها “حسب الوضع في حال أقمنا حفلة رفاق السلاح في مقدمة المدعوين”.

 شهيدي عجيب