أجواء عيد الفطر في دمشق.. نكهة خاصة تفردت بها منذ قرون

دمشق-سانا
طالما ردد الزائرون والوافدون إلى دمشق الفيحاء إن لشهر رمضان الكريم ولأجواء عيد الفطر نكهة خاصة في أقدم حواضر الدنيا الذي تفردت به عمن سواها منذ قرون حيث تصبح دمشق كخلية النحل التي ينتقل سكانها بين أسواقها لتأمين احتياجاتهم وأطفالهم من المأكولات واللباس لأيام الصيام والعيد فيما يخصص أهل الخير جل وقتهم لإعانة العائلات الأكثر احتياجا بكل ما يقدرون عليه.
ويتساوى في الاستعدادات والتحضيرات لعيد الفطر في دمشق الغني والفقير والتي تبدأ خلال أيام العشر الثاني من شهر رمضان فهو على حد قول العامة “للخرق” أي لشراء كسوة العيد فترى الأسواق كل حسب اختصاصها مزدحمة بالمشترين لشراء الملابس والأحذية الجديدة للأطفال وللكبار.
وإذا حل العشر الأخير من الشهر انهمكت النسوة بصر الورق لإعداد حلوى العيد وخاصة المعمول المحشي بالجوز أو الفستق الحلبي وكذلك التويتات والكرابيج ومنهم من كان يصنع حلوى السنبوسك وكان كل موسع عليه في الرزق يضع مائدة مليئة بالحلويات المذكورة وإلى جانبها أطباق الناطف وفي ركن من المضافة منقل نحاسي متوهج بلونه الاصفر وبجمرات الفحم المتقد وقد غرس في جانب منها مصب القهوة العربية السادة “المرة”.
وفي ليلة العيد قلما كان ينام أحد وكان يسبق هذه الليلة البشائر من ليلة السابع والعشرين من رمضان حيث ترتدي دمشق حلة قشيبة من الانوار تنير المآذن والمساجد والطرقات والمحال فينقلب سواد الليل الى نهار وتنفرد البسطات في كل مكان وأمامها وقف الباعة يدللون على بضاعتهم بما يرغب من العبارات وبما يبعث في النفوس الرغبة في الشراء ولكل بائع لحن ورنة خاصة ويتحول سوق الحميدية والحرير والقيشاني الى بحر متلاطم من البشر تتزاحم جموعه أمام البسطات وفي المحال التجارية مما لا يسمح للعابرين شق طريقهم إلا بشق الأنفس.
كما يزدحمون على الكواء والخياط والخباز واللحام كل يبحث عن ضالته لاستكمال ما يحتاج اليه من لوازم العيد وما يترع الفرحة ببهجة العيد أما سوق البزورية فيحيي تلك الليلة ليلة السابع والعشرين من رمضان وما يليها حتى العيد لتلبية طلبات الناس من الملبس وراحة الحلقوم وما ينقصهم من احتياجات.
وما أن تعلن البشارة من القاضي بقدوم العيد حتى تكون المدينة قائمة على قدم وساق وتوضع القلابات والدواخات والأراجيح في ساحات الأحياء وأطراف البساتين.
وكانت محلة الحريقة سيدي عامود تتميز عمن سواها بتوافد الأطفال والفتيات الصغيرات مع أبناء القرى المحيطة بدمشق ليعبروا عن ابتهاجهم بالعيد وكان من أمتع ما يشارك به أبناء تلك القرى عقدهم حلقات الدبكة حيث تصدح الآه والاوف والميجانا والأغاني الشعبية بمصاحبة ناي يشدو وطبل يوقع القدم مع القدم
ويرص الصفوف ويوحد حركاتها.
ويحظى الأطفال في بسطات العيد بالنصيب الوافر فينفقون على معروضاتها معظم عيدياتهم ويتجمعون أمام تلك الدكك الخشبية البسطات التي تحولت بالستائر الخضر والحمر الى حوانيت في الهواء الطلق بما صف عليها من السكاكر وألعاب للصبيان وللبنات.
وعلى هذه البسطات نجد أطباقا صغيرة مملوءة بالملح والكمون صف حولها بعض الكراسي والى جوارها حلة كبيرة مملؤة بالفول النابت والبائع وراء حلته يتأنق في سكب الفول في الصحون أو يشرع المرق في الزبدية وقد أضاف اليها الحامض والكمون وهو يدلل على بضاعته بقوله..
/النابت نبت ياولد .. هلأ استوى اللوز ياولد.. طلعت ايده هالنابت طاب أكله ياولد.. يللي ما بياكل نابت ما له عيد.
ومن البسطات ما نضد عليه أكداس من طواحين مخلل اللفت والخيار والملفوف فيقبل الاطفال الى التهام صحونها المرقشة بهذه الاصناف ويغمسون في مرقها كعك الشرك البقسماد الخاص بها وهذا كله بالإضافة إلى بسطات حلاوة الملوق وحلي سنونك وشرابات الطويلة والقصيرة.
وفي فجر العيد ينهض الجميع كل الى مهامه النساء يهيئن المضافة قاعة الاستقبال ويمددن أسمطة الحلوى ويوقدون النار في المناقل ..ويرقدن القهوة ويعددن طعام العيد أما الرجال فيتوافدون إلى المساجد مكبرين مهللين ..ويستمر الناس بأصواتهم الهادرة في ذلك التكبير حتى تحين صلاة العيد فاذا تمت الصلاة
تلاقت الأكف وشدت على بعضها مهنئة مباركة متوسلة إلى الله تعالى أن يعيده على الأمة بالخير والبركة وعلى الناس بالمسرات والأفراح.
أما زيارة المقابر فبعد صلاة العيد كانوا ينطلقون إلى زيارة المقابر للقيام بزيارة الموتى وللاتعاظ بحال الدنيا الفانية ولا ينسى رب الاسرة أو كبيرها بطبيعة الحال ابتياع أغصان الآس يزينون بها شواهد القبور حتى أن المرء يكاد يرى تلك الشواهد وكان القبور لبست حلة خضراء وان الموتى يشاركون الأحياء العيد
وبعضهم من كان يزين تلك الشواهد بالأزهار والورد وصورة الفقيد إذا كان حديث العهد.
وفي أول أيام العيد يتحتم على كبير الأسرة صلة الرحم كما أن أفراد الأسرة يلتقون في المسجد لتقديم التهاني له ثم الذهاب إلى داره عقب زيارة المقابر للالتقاء على مائدة إفطار خاصة بهم ضحى اليوم الأول من شوال فإذا تم ذلك ينطلق كل فرد إلى داره فيكون الأطفال بانتظاره وقد ارتدوا ثياب العيد كاملة من
الطربوش الى البابوج فيتراكضون لتقبيل الايادي ويمدون أيديهم لتلقي العيدية مصروف العيد فاذا حصلوا على مبتغاهم انطلقوا إلى العيد ليقضوا أمتع الأوقات.
وفرحة العيد التي طبعت دمشق لقرون ما غابت عن أحيائها وأبنائها ليبقى لعيد الفطر في الفيحاء أجواء ليس لها مثيل في مكان آخر لأن شامة الدنيا طبعت على كل ما هو جميل خاتم حسنها ووداعتها.
شذى حمود