من “المدمرة كوينسي” إلى “فيينا”-صحيفة البعث

ربما يسجل التاريخ أن “أوفا” الروسية كانت محطة عالمية مفصلية في طي صفحة “يالطا”، فيما أشرقت من “فيينا” شمس جديدة محت الليل الطويل الذي خيّم على المنطقة والإقليم منذ اتفاق عبد العزيز-روزفلت الشهير.

وإذا كانت “المدمرة كوينسي” قد احتضنت الاتفاق الأخير، الذي ساهم بصورة ما في قيام “إسرائيل”، على أساس حاجة واشنطن -القوة العظمى الوحيدة الخارجة من الحرب العالمية الثانية أقوى مما دخلت فيها- للنفط، وحاجة حكام المملكة لظهير خارجي ضد شعبهم وأشقائهم العرب، فإن اتفاق “فيينا”، إذا تمّ، يقوم على أساس النزول من على متن “كوينسي” ومغادرة زمنها الآفل بامتياز.

والحال فإنها عبر التاريخ ودروسه، ففيما كان عالم ما بعد “كوينسي” ترسمه الولايات المتحدة الصاعدة، ومعها “العالم الحر”، على أنقاض “ألمانيا” المهزومة، وجروح “الاتحاد السوفييتي” رغم الانتصار، وانشغال الصين بذاتها، فإن عالم ما بعد “أوفا” و”فيينا” يرتسم بصورة تبقى فيه واشنطن قوة عظمى بالطبع، ولكنها واحدة من قوى متعددة أخرى، اجتمع نصفها، وأكثر بشرياً، في “أوفا” بزعامة “موسكو” القوية و”بكين” الواثقة، لتقول: إن “يالطا” لم تعد صالحة لحكم العالم الجديد.

وكما عانى العالم، دولاً وأفراداً وزعماء، من حيرة ما بعد “يالطا” و”كوينسي”، ودفع بعض آخر ثمنهما، فإن دولاً أخرى وزعماء آخرون، سيعانون من حيرة ما بعد “أوفا” و”فيينا” وسيدفعون ثمنهما، وتلك حقيقة باردة لا نفع من إنكارها.

وإذا كانت المنطقة هي ما يعنينا بحكم دمائنا السائلة فيها، فإن “الإنكار” و”الحيرة” يتجليان هنا أكثر من أي مكان آخر، وهو ما نلاحظه في سلوك دول وزعماء وساسة، وربما كان اتهام “أردوغان” لـ “عبدالله غل” بأنه من “الخونة والجبناء والمترددين”، فقط لأنه نصح “السلطان” بمراعاة الحقائق الجديدة في المنطقة، والكف عن العبث والدماء، والالتزام بسياسة أكثر واقعية، خير دليل على ذلك.

بيد أن الإنكار والحيرة يتجليان أكثر في تصرف الطرف الثاني من اتفاق “روزفلت- عبد العزيز”، فـ “المملكة” لم تجد سبلاً للمواجهة سوى الإيغال في المجازر، اعتقاداً منها بأن قتل الأطفال والنساء في اليمن، ودعم الإرهاب في سورية والعراق، يمكن له أن يعكس دورة التاريخ، وبالطبع قد تكون حيرتها مفهومة في مكان ما، فسلالة “عبد العزيز” ترى ذاتها تخسر الأموال الطائلة التي دفعتها لحصار “طهران” واحتوائها، وتفقد “حديقتها الخلفية” في اليمن، وتعاني من مطامح قطر، واستقلالية سلطنة عمان، وتمايز الكويت، وشهوة “أبناء زايد” للمزايدة في حب واشنطن، وبوادر انتصار سورية، وصمود مقاومة لبنان، واستعصاء مصري متزايد على الشراء الكامل، في ظل مؤشر آخر أخطر من كل ما سبق، وهو تزايد بوادر فشلها في ضبط الداخل وفق مبدأ “العقيدة والغنيمة والسلطة”.

وعليه فإن صنّاع العالم الجديد، ونتيجة قراءتهم الواقعية للتاريخ ودروسه وعبره، وإيمانهم بالتشبيك لا التشريك، لبناء المستقبل، قدّموا للجميع سلالم للنزول عن شجرة الإنكار والحيرة، ففيما طرحت روسيا تشكيل حلف جديد لمحاربة الإرهاب، كسيناريو يعيد إنتاج الجميع لذواتهم وأنظمتهم في مستقبل المنطقة القادم، رسمت سورية على لسان قائدها طريقاً لعودة ساسة الغرب عن غيهم اعتماداً على “السياسيين والبرلمانيين العقلاء في فرنسا وأوروبا عموماً” وأهمية دورهم في “تصويب السياسات الغربية تجاه سورية والمنطقة، والتي أثبتت الوقائع أنها سياسات فاشلة ساهمت في توسّع الإرهاب وانتشاره ووصوله إلى الدول الأوروبية، نتيجة عدم استماعها إلى متطلبات شعوب المنطقة، والتدخل في شؤونها الداخلية، وانتهاجها معايير مزدوجة في محاربة الإرهاب”.

إنه عالم جديد، وبالتأكيد، أيها السوريون، إنه شرق أوسط جديد، لكن ذلك لا يعني أن حقبة السلام الشامل قادمة، فككل ولادة سوف يكون هناك المزيد من الدماء والدموع، وتاريخ العالم هو تاريخ الصراع، لكن شكلاً جديداً منه سيبرز تحت شمس الغد، ولا سبيل لمواجهة ناجعة سوى بالوحدة الداخلية.

بقلم: أحمد حسن