ما الحدث الذي يمكن أن يتخيله أيّ منا الذي يمكن له أن يحيد الانتباه عن الحملة الانتخابية الأمريكية وهي في أشدّ أيامها نشاطاً محموماً لإقناع الجمهور الأمريكي بالإدلاء بصوته لصالح المرشح أو المرشحة؟ عادةَ يصعب على أيّ حدث مهما عظم أن يحقّق حضوراً على الساحة الإعلامية الغربية يتجاوز وهجه وهج السباق الأمريكي الإعلامي الضخم المحموم بين حزبين لا ثالث لهما إلى البيت الأبيض وكأنه فيلم هوليودي بعنوان “الديمقراطية الأمريكية”. ولكنّ المفاجأة هو أن طالبة إيرانية مريضة نفسياَ، كما تؤكّد سجلاتها في الجامعة وشهادة زوجها السابق، تمكنت وبكل سهولة ويسر من تحقيق هذا الهدف وذلك من خلال تعرّيها في أحد أروقة الجامعة وسيرها بين الطلاب والطالبات المحجّبات والمحتشمات. وما أن حدث ذلك حتى سارعت وسائل الإعلام الغربية وبسذاجة وسفاهة لوصف الحدث وكأنه تمرّد هام على اللباس الإسلامي الذي ترتديه المرأة الايرانية وكأنّ أمراً جللاً يحدث في الداخل الإيراني.
وبغضّ النظر عن الموقف من الحجاب أو الشادور فإنّ ردود الفعل الغربية على هذا الحدث المنكر، المستهجن طبعاً، إن دل على شيء فإنما يدلّ على استمرار الغرب بتسليع حرية المرأة، والاستخدام الرخيص لجسدها للتعبير عن المقولة المكرّرة والزائفة عن تفوّق الغرب في احترام حقوق وإنسانية المرأة؛ المقولة التي بدأ الإعلام الغربي يكرّسها منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي حين اعتبر رفض النساء لارتداء حمّالة الصدر والخروج عن مبادئ الحشمة في الظهور شرطاً لازماً للتحرّر والمساواة بين المرأة والرجل. وفي هذا المفهوم الغربيّ المشبوه خروج عن التجربة الإنسانية برمّتها؛ فنساء أفريقيا وآسيا يعملن منذ قرون يداً بيد مع الرجال ويتبؤن المناصب المرموقة في عشيرتهن ومجتمعاتهن ومدنهن إلى درجة وصولهنّ إلى حاكمات من ملكة تدمر زنوبيا إلى شجرة الدرّ إلى سكينة بنت الحسين، صاحبة أول صالون أدبي، إلى ولّادة بنت المستكفي وغيرهنّ كثر، وفي كل أصقاع الأرض ودون أن تضطر أي من هؤلاء النسوة أو أيّ من نساء مجتمعاتهنّ على استعراض أجسادهنّ لإثبات حضورهنّ في مجتمعاتهنّ. وبغضّ النظر عن الحجاب الإسلامي، الذي يهاجمه الغرب باستمرار، فإن نظرة إلى صور المرأة عبر التاريخ تُري أن المرأة الأوروبية والآسيوية والعربية والأفريقية قد اعتمدت غطاء الرأس المتناسق مع الثوب الذي تلبسه، والذي أضفى عليها وقاراً وجمالاً.
النقطة الأساسية هنا وفي هذا المثال هي محاولات الغرب اليائسة لفرض مفاهيمه المنفلتة وأنموذجه المتعرّي على بقية شعوب بلدان العالم مستخدماً إعلامه المسير، غير مدرك أنه قد انكشف أمام العالم بعد دعمه لحرب الإبادة على غزة، وأن الصورة الإعلامية المزيفة التي روجها الغرب بعد الحرب الباردة، والتي تُري الولايات المتحدة كدولة لا يمكن لأحد في العالم الاستغناء عنها، وأنها المدينة المضيئة على التل، وأنها رمز الحرية، لم تعد هذه الصورة المزيفة ماثلة في أذهان الشعوب التي تتلقى النتائج الكارثية لسياسات الولايات المتحدة بما فيها الشعب الامريكي نفسه والذي لا يتمكن شبابه وشاباته من إنشاء أسرة نتيجة ضغط النفقات وضعف الرواتب وعدم قدرتهم على توفير الوقت والمال بإنشاء أسرة، وهذا ما يشعر به عموم الشعب الأمريكي من ضائقة مالية نتيجة هدر المال العام على الحروب الخارجية وإنفاق المليارات من أموال الشعب الأمريكي على إشعال نار الحرب في أوكرانيا وعلى تزويد كيان الإبادة الصهيوني بأحدث الأسلحة والذخائر لقتل المزيد والمزيد من الأطفال العرب . بينما الصورة التي تروّجها الإدارة للعالم هي صورة الخمسة بالمئة التي تعتاش وتجني المليارات من إشعال الحروب والفتن واستغلال الموارد الأمريكية لمراكمة ثرواتهم.
لقد ساهمت الحرب على أفغانستان وعلى العراق وعلى ليبيا وعلى اليمن وأخيراً على غزة ولبنان في إظهار الوجه الحقيقي للولايات المتحدة المتغطرس المتعطش لسفك الدماء وتدمير حياة الملايين من الناس، ولكنّ حرب الإبادة التي يقوم بها الكيان الصهيوني منذ أكثر من عام ضدّ المدنيين الأبرياء في فلسطين ولبنان وبدعم لا محدود، عسكري ومالي وإعلامي وسياسي من البلدان الغربية كلها، ومن قبل الولايات المتحدة بشكل أساسي قد كان القشة الأخيرة التي قصمت ظهر البعير في مكانة الولايات المتحدة السياسية والأخلاقية في العالم حيث اتضح دورها المشين في تعطيل النظام الدولي، وإفشال الأمم المتحدة ومجلس الأمن للقيام بدورهما في إيقاف القتل والدمار والحصار الغربي على المدنيين العزل، وافتضح دورها في الوقوف سدّاً منيعاً في وجه تحقيق العدالة وإحقاق حقّ الشعوب في أوطانهم والدفاع عنها من أجل ضمان هويتها واستقلالها وكرامة أبنائها في العيش أحراراً على أرضها.
فإذا كان هذا الاعلام الغربي المسيّر المموّل صهيونياً وهذه الحكومات الغربية المتصهينة مهتمّة بحقوق المرأة، فأين هي من حق الحياة بكرامة للنساء الفلسطينيات اللواتي تقصف منازلهن ليلاً ونهاراً؟ وأين اهتمامهم بالنساء الحوامل اللواتي في غزّة بُـقرت بطونهن من قبل جنود متوحشين معبأين بالكراهية العنصرية حيث تمّ قتل أجنّتهن معهن وتمّ اغتصابهن؟! وأين هي الحكومات الغربية وإعلامها المكبل من السجينات الفلسطينيات اللواتي يسرُدنَ لمحاميهن إجراءات الرعب والتعذيب والإهانة التي يتّخذها جنود الاغتصاب الإسرائيلي في حقهنّ كلّ يوم وكلّ ساعة دون توجيه أيّ تهمة لهنّ لأنهنّ لم يرتكبن ذنباً سوى الدفاع عن أرضهنّ وبيوتهنّ وأولادهنّ بكل ما أوتين من قوة؟! وأين هو الغرب من الأطفال الفلسطينيين السجناء، وهو يتشدق دوماً بحقّ الطفل؟ وتدّعي ممثلة المملكة المتحدة في الأمم المتحدة أن بلادها تعطي الأولوية للنساء بالبند الخاص بـ “المرأة والسلم والأمن” غير مدركة أن لا أحد يؤمن بعد اليوم بصدق ما يقولون بعد أن أظهر النفاق الغربيّ في حرب الإبادة الصهيونية على غزة حقيقة سياسات الغرب الاستعمارية العنصرية وأنها تسعى فقط إلى الهيمنة على مقدرات شعوب العالم، وخاصة الأمة العربية، ونهب ثرواتها واستيطان أراضيها.
ولكنّ هذا الانكشاف لا يخصّ فقط شعوبنا العربية المتأثرة بشكل سلبي كبير بدعم الغرب للعدوان والاحتلال والقتل والإبادة، ولكنه أيضاً يسري، إلى حدّ ما، على الشعوب الغربية وخاصة على الجيل الشاب وطلبة الجامعات الذين تحرّكت ضمائرهم ضدّ العدوان على غزة، وانتفضوا بكل الوسائل المتاحة لهم ضدّ القتل والظلم والتهجير قبل أن يتمّ قمعهم وإخماد أصواتهم بكل وحشية. هؤلاء هم الذين هزموا الديمقراطيين في هذه الانتخابات في أول فرصة أُتيحت لهم للتعبير عن رأيهم الرافض لما يجري من جرائم إبادة وحشية؛ حيث تؤكد التحليلات أنّ الشباب الأمريكي الذي انتخب للمرة الأولى في الولايات المتحدة لم يعط أصواته للديمقراطيين، بصرف النظر عن مستقبل موقف الإدارة الجديدة مما يجري في المنطقة، ولكنّ الرسالة هي أن الكلمة الأخيرة عبر التاريخ هي للشعوب وإن تكن غطرسة الحكّام المتصهينين وأهواؤهم تعمي أبصارهم وقلوبهم عن هذه الحقيقة المثبتة فإن هذا لا يغيّر من الأمر شيئاً.
بالإضافة إلى الكوارث التي أرخت بظلالها على المفاهيم الغربية المشبوهة لتحرير المرأة والتي عملت على تسليعها فقط، فإن مفاهيم الغرب أيضاً عن الديمقراطية، مثلاً بأنها ديمقراطية ليبرالية غربية لا علاقة لها بثقافة شعوب العالم وتاريخها وتطوّر حضارتها، هو أيضاً مفهوم زائف تمرّدت عليه أمم عديدة والتي توصلت إلى نمطها الخاص بالحكم مثل الصين و إيران وماليزيا وأندونيسيا وغيرها، ودول في أمريكا اللاتينية ودول أفريقية، والمسألة واضحة بأن الشعوب سوف تصنع خياراتها وفق ما يلائم احتياجاتها وطموحاتها وبمعزل عن الدعايات والهيمنة الغربية التي سقطت أخلاقياً وسياسياً، ولن تعمد إعلامياً أو واقعياً أبداً بعد هذا الامتحان الذي فشلت فيه في الانتصار لأي من مقولاتها وادعاءاتها التي درجت على ترديدها على أسماع العالم على مدى عقود.
وبدلاً من مراجعة الذات والانخراط بتفكير نقديّ جاد يراجع عبارات سخيفة مثل “عالم مبنيّ على القواعد” ويراجع سياساتهم الوحشية في دعم كيان إرهابيّ مثل نظام نتنياهو الدموي بالمال والسلاح وترديد أكذوبة “الدفاع عن النفس” في الوقت الذي يمثل الفلسطينيون واللبنانيون جذوةً ومفهوماً أصيلاً للدفاع عن النفس، بدلاً من ذلك ينخرط الغرب مجدّداً بمحاولات يائسة لتغيير قيمة الشهادة في مجتمعاتنا وقيمة الشهامة والنخوة والحشمة، المفاهيم التي دخلت في جينات أجيالنا والتي نعتزّ ونفتخر بها، فتحاول اختراق مجتمعاتنا من خلال نشر مفاهيم وسلوكيات التعرّي والانفلات اللاأخلاقي باستخدام عبارات فاشلة مثل “الخلاص الذاتي” و”الثروة المادية والعيش الهانئ لي ومن بعدي الطوفان” وكلّ هذه المفاهيم المغلوطة التي لا تمتّ لحضارتنا وللحضارة الإنسانية العريقة بصلة . أوَ لا يخجلون من محمود البصل وحسام أبو صفية وعشرات الإعلاميين الذين يرون رفاقهم يستشهدون وينتقلوا بكاميراتهم لتصوير عدوان آخر على شعبهم وإيصاله للعالم؟! أوَ لا يخجلون من لاجئ حمل قضيته منذ سبعين عاماً ينتقل بها من أرض إلى أرض ويأبى مغادرة ترابه المقدس ولو مات عطشاً وجوعاً ولكنه لا يسمح للمعتدي الصهيوني الغريب القادم من وراء البحار أن يمرّ إلا على جسده. كلّ المفاهيم المريبة والفاشلة التي يبثّونها في محاولات يائسة لتغيير عجلة التاريخ الحضاري للبشرية لن تغيّر من مفهوم الهوية المقدس والتشبّث الشهم والرصين والتاريخي بهذه الهوية مهما بلغت الأثمان إلى أن يحقّ الحقّ ويزهق الباطل “إنّ الباطل كان زهوقا”.