البعث بين المبدئية والواقعية-صحيفة البعث

لم يكن هدف البعث منذ ولادته في أربعينيات القرن الماضي أن يصل إلى السلطة في بلد عربي إلّا بهدف الانطلاق لتحقيق أهدافه الكبرى، وفي مقدمتها الهدف المحوري الوحدة العربية، وعلى هذه الخلفية يجد المتابع لتاريخ نضاله أن بداية إنجازاته لم ترتبط بوصوله إلى السلطة في سورية، أو العراق، وإنما قبل ذلك بسنوات عديدة، إذ تزامنت مع ولادته الفكرية في أربعينيات القرن الماضي، واتخذت طابع المواقف الوطنية والقومية من النضال ضد المستعمرين الفرنسي والبريطاني، إلى الدعوة لتحرير البلدان العربية من الاحتلال الأجنبي، ناهيك عن محورية القضية الفلسطينية في برنامجه السياسي، وحراكه على المستوى القومي، ومع الإعلان عن ولادة البعث حزباً سياسياً في السابع من نيسان عام ١٩٤7، أخذ نشاطه الطابع المنظم في التصدي للمشاريع الاستعمارية التي أصبحت المنطقة العربية مسرحاً لها في خمسينيات القرن الماضي، خاصة أن الحزب بدأ يتحرك وينتشر كتنظيم قومي على مستوى الساحة العربية، وأصبح له رصيد شعبي، خاصة في الأوساط المثقفة من خلال تعريته وتصديه لمشاريع الاحتواء والهيمنة الغربية من قبيل مشروع ايزنهاور، وحلف بغداد، وكذلك تصديه للانقلابات التي حدثت في سورية نهاية الأربعينيات، وبداية الخمسينيات التي عرف الحزب ارتباط منفذيها بالقوى الخارجية بهدف تحقيق مصالح جيوسياسية تخدم الغرب الاستعماري، ولكن يبقى الإنجاز الأهم للبعث قبل قيام ثورة الثامن من آذار، المساهمة الفاعلة في تحقيق الوحدة الاندماجية بين القطرين السوري والمصري، وقيام الجمهورية العربية المتحدة عام ١٩٥٨.

ما سبق يؤكد حقيقة ما قاله الرفيق الأمين القطري للحزب، سيادة الرئيس بشار الأسد في المؤتمر القطري العاشر عام ٢٠٠٥، من أن البعث كان قضية قبل أن يكون حزباً في السلطة، وهو كلام دقيق، وعميق الدلالة، ويشير إلى أن البعث فلسفة، ورسالة حضارية، ومشروع قومي بالدرجة الأولى، والسلطة بالنسبة له ليست هدفاً بقدر ما هي وسيلة لتحقيق الأهداف التي نذر نفسه من أجلها، وهي تحقيق الوحدة والحرية والاشتراكية، وهذا ما يؤكده مسار ثورة الثامن من آذار عام ١٩٦٣، حيث شكّلت قضية الوحدة العربية وسبل تحقيقها أولوية لدى قيادة الحزب والسلطة في سورية، ولم يشغل المشروع الداخلي للثورة المتمثل في توطيد أركان الحكم الجديد، وتنفيذ خططها واستراتيجياتها في إعادة رسم الخريطة الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، عن برنامج واستراتيجية الحزب القومية، ومنها توسع قاعدة الحزب على مستوى الساحة العربية، ما زاد من وتيرة منسوبه النضالي، واتساع قاعدته التنظيمية، وحيزه الاجتماعي، وعزز دور التيار القومي العربي، ما ساهم في قيام العديد من الثورات العربية ضد الاستعمار والاستبداد، وأحبط وأسقط العديد من المشاريع الاستعمارية، وساهم في انطلاق المقاومة الفلسطينية مطلع عام ١٩٦٥.

إن التحديات التي تواجهها أمتنا العربية اليوم تؤكد جوهرية وجاذبية ما طرحه حزب البعث من شعارات، وأهداف، وأفكار وطنية وقومية، فالزمن يثبت أنها جاءت وليدة قراءة صحيحة للواقع العربي، واستشرافاً حقيقياً للمستقبل وتعقيداته، ولعل ما تواجهه أمتنا العربية اليوم من إرهاب تدميري متحالف موضوعياً مع القوى الخارجية التي ناصبت الأمة العربية العداء التاريخي، واستهداف الهوية العربية الجامعة، وفكرة الدولة الوطنية، هو المثال الحي على حيوية وجاذبية وأهمية الفكرة القومية.

إن استمرار مسيرة البعث وجاذبية أفكاره يستدعي مقاربة الأفكار التي طرحها بصيغ وأساليب جديدة، ولاسيما هدف الوحدة الذي لم يعد حلماً رومانسياً فقط بقدر ما هو ضرورة وحاجة تفرضها الوضعية العربية القائمة، فالدولة الوطنية لم تستطع تحقيق تنمية حقيقية منافسة في ظل التكتلات التي يشهدها العالم في ظل العولمة الاقتصادية، والشركات متعددة الجنسيات والعابرة للدول، إضافة إلى التحديات الأمنية، وانكشاف الأمن الوطني والقومي وسط تمدد مشاريع إقليمية ودولية على حساب السيادة الوطنية لمعظم الأقطار العربية، مع غياب حدود دنيا من تنسيق أو رؤية عربية في مواجهة تلك التحديات التي باتت تغرز خناجرها ورماحها في جسد الأمة المدمى بالجراح.

إن مسؤولية الدفاع عن الوجود العربي وبناء الدولة القومية على حامل ثقافي حضاري جامع، هي اليوم مسؤولية الجميع، أحزاباً، وقوى سياسية، وتيارات قومية، ونخب فكرية وثقافية، نواتها الصلبة القوى الشبابية المنظمة والمعبأة والمشبعة بروح الفكرة، فهي قادرة على تشكيل حراك فعال على المستوى القومي يفرض أجندته على المستوى السياسي بحكم ثقلها الاجتماعي، والتاريخي، وقدرتها على التعاطي الفعال مع وسائل الضغط الشعبي، وامتلاكها أدوات التواصل الحديثة التي باتت قادرة على تشكيل حراك عابر للحدود في ظل ما أفرزته العولمة من تقانة وقوة ناعمة قادرة على تشكيل كتل تاريخية يتجاوز حجم تأثيرها أضعاف أضعاف ما تستطيع أكثر الأحزاب السياسية بنية وتنظيماً إحداثه على مستوى الشارع السياسي.

إن استيعاب الأحزاب السياسية التقليدية والجديدة هذه الحقيقة التي يفرضها الواقع العملي، يوجب عليها إعادة النظر في أساليب عملها وعصرنة لغة خطابها وأدواتها، ومستوى تأهيل منتسبيها، وآليات التواصل بين قياداتها وقواعدها عمودياً وأفقياً، مع تجديد في المحتوى الفكري والثقافي، فالنمطية في الأداء والصيغ والخطاب أصبحت في أرشيف القوى السياسية الحية التي تتعامل بلغة العصر وأدواته لتكون موجودة وفعالة على خريطة الواقع.

بقلم: خلف المفتاح

انظر ايضاً

الشرق وتجدد الدورة الحضارية- بقلم: د.خلف المفتاح

الشرق رسالة جامعة لأشياء كثيرة، هي عبارة تختزل تجربة تاريخية عظيمة لهذه المنطقة من العالم، …