حروب الإلغاء الأمريكية- بقلم: عبد الرحيم أحمد

اليوم لا حاجة للعالم بتعدد المصادر الإعلامية، عليه أن يسمع الصوت الأمريكي الواحد فقط، ولا حاجة له بالكاتب الروسي ديستويفسكي فيكفيه قراءة هنتنغتون و”صراع الحضارات”، ولا حاجة للعالم بمسرح البولشوي فيكفيه أفلام “حرب النجوم”، ولا للعملات واللغات الوطنية فالدولار والانكليزية الأمريكية حكم مبرم.. هكذا تريد الولايات المتحدة العالم أن يكون.. فهل يكون؟

لقد قيل الكثير عن ازدواجية المعايير الغربية عند التعاطي مع القضايا الدولية، وقد عشناها في شرقنا المنكوب بالحروب المفروضة عليه حيناً والمداراة به وعليه حيناً آخر، لكن للحقيقة بدأت الحروب الإعلامية تأخذ أبعاداً إلغائية خطيرة مؤخراً مع التطور الذي شهدته تقنيات الاتصال الحديث ووسائلها ومعها منصات الإعلام وبرامجها التقنية المتطورة.

فالحرب اليوم لا تستهدف الشعوب عسكرياً واقتصادياً فقط، بل تستهدف السيطرة على الوعي والرأي العام لتلك الشعوب، لما له من دور في تحقيق النصر في الحرب العسكرية، ومن هنا ظهرت فكرة الصحفيين المحمولين مع الجيوش في المعارك – كما شاهدنا في الحروب التي شنتها واشنطن ضد العراق وأفغانستان- ينقلون فقط ما ترغب القيادة العسكرية في نقله إلى الرأي العام العالمي.

لقد مل العالم من الكذب الغربي وتزييف المصطلحات وسيطرة واشنطن على اللغة الإعلامية التي تتبناها المنافذ الإعلامية الغربية وتوزعها “قولاً محتوماً” على وسائل الإعلام الأخرى، فمعظم من عايش الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 يعلم أن الجيش الأمريكي شن العدوان تحت عنوان مزيف “عملية تحرير العراق” “Operation Iraqi Freedom” وقد ظهر هذا “المانشيت” على شاشات التلفزة الأمريكية المملوكة من إمبراطور الإعلام الامريكي اليهودي روبرت مردوخ وخصوصاً شبكة فوكس نيوز طيلة فترة الحرب، فيما يجري اليوم تجريم الإعلام الروسي وحظره لأنه يتحدث عن عملية عسكرية روسية في أوكرانيا ولا يتحدث عن “غزو”.

الحقيقة أن الحرب الغربية التي تقودها واشنطن عبر ذراعها “الناتو” ضد روسيا اليوم ليست حرباً عسكرية فقط، بقدر ما هي حرب إلغاء اقتصادية وثقافية وحرب معلومات وإعلام، كما جميع حروب واشنطن ضد خصومها، فالدول الأوروبية والغربية عمدت إلى جانب محاولات العزل الاقتصادي، إلى تغييب الإعلام الروسي وحجبه عن الرأي العام العالمي، تماماً كما حصل مع الإعلام السوري ومحاربته وإنزاله عن الأقمار الأوروبية بهدف تكريس وجهة النظر الغربية. وتم حظر بث قنوات روسيا اليوم وسبوتنيك في أوروبا والولايات المتحدة وبعض الدول الأعضاء في حلف الناتو تحت عنوان محاربة “التزييف”.

في المقابل عندما تحركت موسكو ضد التضليل الإعلامي وحجبت بعض منصات التواصل الاجتماعي مثل “فيسبوك وتويتر” رداً على تقييد هذه المنصات وسائل الإعلام الروسية، بدأت الانتقادات ضد روسيا بأنها تعمل على فرض قيود على “الإعلام الحر والمستقل”.. فحجب وسائل الإعلام من قبل الغرب هو محاربة “للتزييف”، بينما حجبها من قبل روسيا هو تقييد “للإعلام الحر”.. هكذا هي المعايير المزدوجة.

في الحقيقة، لقد تعودت الولايات المتحدة أن تكون جميع حدود القوانين والمواثيق التي تحكم العلاقات الدولية مربوطة بقدم الجندي الأمريكي، تسير معه كيفما اتجه وأنى تحرك، فمقاس القانون الدولي من مقاس المصالح الأمريكية ولونه من لونها وشروطه من شروطها لا يحيد عنها قيد أنملة، فما تقوله واشنطن هو القانون الدولي وعلى العالم أن يطيع، هكذا تعودت الإدارات الأمريكية على مدى عقود بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وحربها اليوم تهدف إلى الإبقاء على هذا النمط السائد في العلاقات الدولية.

فمن يتابع الإعلام الغربي وبعض الإعلام الناطق بالعربية يظهر له أن الجميع يتحدث بأمر عمليات واحد ولو اختلفت اللهجة والنغمة ولكنها جميعها تصوب على الهدف نفسه، تشويه صورة روسيا الدولة التي ترسّخت صورتها على مدار عقود نصيرة للشعوب في تحقيق مصيرها واستقلالها مقابل صورة الولايات المتحدة المرتبطة بشن الحروب والاحتلال وغزو العديد من الدول.

إذا كانت القضية التي تدافع عنها واشنطن ومعها أكثر من 20 دولة منضوية في حلف الناتو هي قضية عادلة، فما حاجتها لتغييب وجهة النظر الأخرى وهي تتشدق بالإعلام الحر والديمقراطية؟ وما حاجتها لحظر الإعلام الروسي؟ أليس من الحرية والديمقراطية أن يسمع العالم جميع وجهات النظر ونترك للرأي العام أن يقرر؟

لاشك في أن الهياج الإعلامي الغربي وحرب الإلغاء التي تشنها واشنطن ضد موسكو ترتبط بخشية الولايات المتحدة من أن زمن عولمة السياسة الأمريكية قد ولى، وأن الشعوب والدول الأخرى تقول كلمتها اليوم، فلا الدولار قضاءٌ مبرم، ولا واشنطن الخصم والحكم بعد اليوم.

انظر ايضاً

نقل الحرب إلى داخل روسيا لمصلحة من؟… بقلم: عبد الرحيم أحمد

لم تكن المحاولة الأوكرانية استهداف مبنى الكرملين بطائرات مسيرة مطلع شهر أيار الجاري محاولة جديّة