دمشق-سانا
نجحت الحركة الصهيونية في استقطاب الدول الكبرى الأوروبية والآسيوية لدعم مشروعها منذ نهاية القرن 19 متحدية ما أصدرته الدولة العثمانية من أنظمة وفرمانات بخصوص وقف الهجرة اليهودية رافضة الحصول على ما سمي /الجنسية العثمانية/ والخضوع لأحكام الدولة ومصرة على اتخاذ فلسطين وطناً قومياً لليهود.
هذا ما يبينه كتاب /دور السلطان عبد الحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين/ الصادر حديثاً عن دراسات الوحدة العربية في بيروت لمؤلفته الدكتورة فدوى نصيرات والتي توضح فيه تلك الفجوة الواسعة بين النظرية والتطبيق في سياسة السلطان العثماني عبد الحميد الثاني وازدواجية قراراته في منع الهجرة والاستيطان في فلسطين.
أهم الأسباب التي حالت دون تنفيذ قرارات السلطان عبد الحميد كانت تدخل الدول الأجنبية لمصلحة الصهاينة وذلك وفقاً لنظام الامتيازات الأجنبية الذي شدد الخناق على عبد الحميد الثاني وجعله في حالة اضطراب عند إصداره الفرمانات ومن ثم التراجع عنها أو تعديلها وفقاً لمصالح الدول الكبرى حيث يفضح الكتاب حقيقة تلك القرارات والفرمانات الحميدية التي ناقضت نفسها غير مرة واعتبرها الموءرخون عيباً كبيراً في سياسة السلطان العثماني تجاه فلسطين.
وتتساءل المؤلفة نصيرات.. ما معنى أن تنطبق قيود الدخول فقط على اليهود الذين يأتون إلى فلسطين في جماعات أما هؤلاء الذين كانوا يصلون مع عائلاتهم من اليهود فلهم مطلق الحرية؟! ثم أن الربط المباشر لعبد الحميد الثاني كما يبين الكتاب بين متصرفية القدس والأستانة يعد أقوى دليل على علم السلطان بكل ما كان يجري في فلسطين وليس الولاة والحكام المرتشون فقط هم من يتحملون مسؤولية ضياع فلسطين كما تحاول الوثائق السلطانية لآل عثمان أن تبينها.
ويوضح الكتاب أن عبد الحميد الثاني رغم استشعاره ومعرفته للخطر الصهيوني إلا أنه لم يأخذ من الإجراءات ما يمنع من خلاله تسلل اليهود إلى أرض كنعان ويستعرض جزءا من المفاوضات طويلة الأمد التي استغرقها السلطان العثماني مع ثيودور هرتزل زعيم الحركة الصهيونية فجاءت أكثر الفرمانات الرسمية للسلطان تدل على مواقفه من الحركة الصهيونية.
ويثبت الكتاب بالوثائق والتحليل العلمي أن هناك فرمانات جزئية لعبد الحميد سمحت لليهود ببناء المستعمرات أما ردود الفعل الحميدية على العرائض والشكاوى التي رفعها أهالي فلسطين للسلطان مطالبين خلالها بوقف المد الصهيوني على أراضيهم لم يكن لها أي تأثير يذكر وسرعان ما تم تعديلها من قبل الباب العالي لمصلحة الصهاينة.
ويوضح الكتاب تزايد أعداد اليهود في فلسطين ثلاثة أضعاف ما كانت عليه عام 1882 وازدادت نسبة اليهود من 5 بالمئة إلى 11 بالمئة من مجموع السكان في فلسطين فلم يتمركز اليهود في القدس والخليل وصفد وطبريا فحسب بل في يافا وحيفا وغيرها من المدن الفلسطينية.
حقائق أخرى تكشفها الباحثة نصيرات في كتابها ولاسيما مضمون الرد الرسمي والجواب النهائي من عبد الحميد ورجالاته على مطالب هرتزل باستصدار فرمانات سلطانية تسهل حركة بيع الأراضي الفلسطينية حيث جاء هذا الرد على شكل نصيحة كتب فيها “ادخلوا هذه البلاد كرجال مال وكونوا أصدقاء بعد ذلك يمكن لكم أن تفعلوا ما تشاؤون”.
وتتساءل الباحثة إذا كان عبد الحميد الثاني قد رفض عرض هرتزل في لقائه الأول به سنة 1896 كما يزعم بعض المؤرخين بأنه رد بها بحزم “برفض بيع فلسطين مهما كان الثمن” على عرض زعيم الصهاينة فلماذا التقى عبد الحميد هرتزل عدة مرات بعدها بل واستضافه في اسطنبول وعلى نفقته الخاصة وأمر خاصته بالحرص عليه والاعتناء به ووفادته.
ويرى الباحث خالد حروب الذي قدم للكتاب أنه يسجل كل صغيرة وكبيرة متعلقة بسياسة ومواقف عبد الحميد الثاني تجاه فلسطين فضلا عن توثيق الباحثة لتفاصيل الزيارات الخمس التي التقى فيها هرتزل بالصدر الأعظم بين عامي 1896و1902 اثنتان منهما على نفقة الباب العالي حيث نلتقط منها تردد عبد الحميد وتساهله إزاء هرتزل ومحاولته استكشاف صدقية الزعيم الصهيوني وقدرته على الوفاء بوعوده التي خلعها للسلطان مقابل الحصول على صك يمنح فلسطين قانوناً للصهاينة.
ويشرح الكتاب أن تماطل وتسويف عبد الحميد إزاء أطماع الصهاينة الأساس الذي مكن الصهاينة من توسيع نفوذهم ومصالحهم الاقتصادية وتأسيس عصاباتهم الإجرامية للسيطرة على الوطن الفلسطيني واستثمار تردد السلطان الحميدي والأبواب المواربة التي تركها لهم عمداً لإقامة البنية التحتية الاستيطانية لما يسمى /وطن قومي/ لهم على أرض فلسطين.
إلا أن المفارقة الكبرى التي يكشفها الكتاب دون لبس أو مواربة هي أنه تم إنجاز التأسيس للكيان الصهيوني عملياً وواقعياً في عهد السلطان الذي رفض لفظياً وشعاراتياً إعطاء فلسطين لليهود.
ويتحدث الكتاب الذي يقع في 255 صفحة من القطع المتوسط على وقائع تاريخية غاية في الأهمية تكشف تورط السلطنة العثمانية في إنشاء الكيان الصهيوني بفلسطين.
سامر اسماعيل