أسرار الانكفاء الأمريكي الصامت

بدأت مؤشرات الانكفاء الأمريكي بالظهور على نطاقٍ واسعٍ في حنايا الملف السوري، وهذه ليست تكهنات، بل وقائع معززة بمعلومات وتطبيقات تتواتر الأخبار الراشحة بصددها تباعاً عن الأروقة السياسية ذات الصلة، تؤكد في مجملها أن الاخطبوط الأمريكي بدأ فعلياً بسحب مجساته واستطالاته من المضمار السوري مرغماً تحت عدّة اعتبارات، ولو كان في مقدّمتها ما يتصل بمصالحه، التي بدأت تلفحها النيران الملتهبة هنا على كامل منطقة الشرق الأوسط، وليس في سورية وحسب.

وأغلب الظن أن ما يشبه العروض الجوية لطيران “التحالف” لم تعد تكفي للإيحاء بالسطوة والسيطرة على الموقف، فقد نكون أمام ظاهرة صوتية وليس إلّا، بل ربما هذه هي الحقيقة التي يمكن استنتاجها من جدوى الغارات المزعومة على الإرهاب ونتائجها الباهتة على الأرض، حتى ولو لم يعلن “داعش” مؤخراً عن إسقاط أول طائرة في “عراضة التحالف”.

ولعلنا لا نسخر، بل نقارب المشهد بدقة، إن شبهنا حال ساسة البيت الأبيض، في سياق ما آلت إليه الأوضاع، بأحمق متغطرسٍ طوّقته دوائر نارٍ أضرمها في لحظات نشوة، فاستغاث دون أن يصرخ، واستنجد بمساعدات الخصوم دون أن يطلب.. أو ليست المكابرة على إعلان العجز صراحةً، من البروتوكولات الرائجة هذه الأيام في أدبيات رعاة القطب الأوحد، الذي يعيش حالة احتضار على الملأ أمام زحف تعددية لم تعد تعترف بجدوى الاستعراض الأجوف؟.

فجأة، ودون مقدمات طويلة، انتقلت حضانة الملف السوري من الأمريكي إلى الروسي، في استسلامٍ من الطرف الأول أمام تجسيدات مقولة: “اعط خبزك للخباز”، التي نتداولها كثيراً نحن السوريين، وإن تفاءل بعض المراقبين مسبقاً بنتائج “موسكو1″ -في حال توفرت المناخات الملائمة- سيكون التفاؤل مبنياً على فشل جولتي جنيف ومونترو، بسبب لغبصات الأمريكي، التي أحرقت الطبخة وأزكمت أنوف العالم بروائحها.

تنحت واشنطن الآن، وتكاد تكتفي بالجلوس على مقاعد المتفرجين، بل أكثر من ذلك أيقنت أن من واجبها المساهمة –ولو سراً- في تهيئة مضمار اللعب لمجريات الحل “إقالة الجمهوري تشاك هاغل وزير الدفاع الحليف الودود لأردوغان ومشاريعه الكارثية”، وهذا تسليم بإملاءات صارخة للأمر الواقع، كان الإملاء رقم واحد فيها إنجازات الجيش العربي السوري على خط مكافحة إرهاب “داعش” وأشباهه، وهو ما تعيه الإدارة الأمريكية جيداً دون أن يصرّح عنه كل من الوزير المعلم والدكتور الجعفري.

والإملاء رقم اثنين كان المحاولات السافرة التي تجري لإفشال مهمة المبعوث الأممي دي ميستورا، ورسائل التسويف والعودة إلى المربع الأول، القادمة من اجتماعاته مع “مشعوذي المعارضة” في أنقرة، بالتالي لابد من بدائل ناجعة أكثر عمقاً، ولو كانت كفة إرادة الدولة السورية هي الراجحة فيها.

أما الإملاء الثالث فيتعلق بالعلاقة مع موسكو، والمأزق النفطي الذي افتعله آل سعود “أكبر بئر نفطي وأكبر مصنع للإرهاب في العالم”، وأوقعوا الأمريكي فيه، كما سواه من المنتجين، بعد أن وصل سعر البرميل إلى ما دون 60 دولاراً، وهذا كافٍ لإحباط طموحات النفط الأمريكي الجديد، والتلويح بخلق حالة إذعان لرغبات غير آمنة لمنتجي نفط الخليج، يفضل الأمريكان تفاديها على خلفيات تجارب سابقة.

والإملاء الرابع ذو صلة بالعلاقة مع إيران، وحيثيات الملفات الثنائية العالقة، والموضوعة على طاولة الحلحلة، بغض النظر عن الثمن المطلوب دفعه من دفاتر الذمة الأمريكية.
انكفاء الأمريكي يعني انكفاء زمرة طويلة–عريضة من صانعي الإرهاب ومموليه ورعاته، ويعني انعطافة نوعية في المعالجات الجارية للملف السوري، وعلى مسارين: الأول ميداني عسكري يتعلق بالثقة بقدرات الجيش العربي السوري على محاصرة الجماعات الإرهابية في حال تمّ فعلاً تجفيف مصادر “التمويل والإعداد”، والثاني سياسي، يتعلق بمصداقية الراعي الروسي والثقة بنياته المبنية في جزءٍ وافٍ منها على منطلقات تراعي السيادة السورية ومصالح الشعب السوري.
وفي المحصلة لا نملك إلّا التفاؤل.. ففي انكفاء الشيطان إشراع لبوابات السلام والأمان.

 

بقلم: ناظم عيد