دمشق-سانا
منذ أكثر من عقد، يعيش الاقتصاد السوري واحدة من أعقد أزماته النقدية والمالية، حيث بات التضخم سمة يومية للحياة الاقتصادية، وفقدت الليرة جانباً كبيراً من قدرتها على أداء وظائفها الثلاث (وسيط للتبادل، وحدة حساب، مخزن للقيمة)، ونشطت أسواق الصرف في الظل أكثر مما في العلن، في بيئة مثقلة بأعباء مالية وهيكلية، جعلت من الإصلاح النقدي مسألة مصيرية لا يمكن تأجيلها.
الخبير المصرفي ياسر المشعل المختص في العلوم المالية والنقدية والاقتصادية قال في تصريح لـ سانا: إن أي خطة جادة للإصلاح النقدي لا بد أن تنطلق من مبدأ بسيط وصارم يعيد الانضباط الاقتصادي ويبني المصداقية، ويرسخ الاستدامة، عبر مسار متدرج من خمس مراحل:
المرحلة الأولى: وقف نزيف الثقة وبناء خط الدفاع الأول
أهم ما يجب القيام به هو وقف التمويل النقدي المباشر للعجز الحكومي، لأنه المصدر الأساسي للتضخم، وفقا للمشعل، فبالنسبة للسياسة النقدية يجب وضع سقف صارم لنمو القاعدة النقدية، وربطه بمؤشرات معلنة وإطلاق ممر للفائدة (سعر إيداع وسعر إقراض) لضبط التذبذبات في سوق ما بين البنوك.
وأكد المشعل ضرورة اعتماد آلية تسعير شفافة، بحيث تُدار الأسعار ضمن هامش محدد يتناسب مع الفروقات التضخمية والمعروض من النقد الأجنبي، لمنع القفزات المفاجئة للسعر وتضييق الفجوة مع السوق الموازي.
ويجب أن يترافق ذلك مع إعلان تقارير شهرية عن التضخم والسيولة كون الناس بحاجة إلى “إشارات” أكثر من حاجتهم إلى “وعود”، حيث نبه المشعل إلى أنه إذا لم يتحقق الانضباط في هذه المرحلة، فلا جدوى من أي إصلاح لاحق.
المرحلة الثانية: تثبيت الاستقرار وتوسيع أدوات الضبط
في هذه المرحلة، حسب المشعل، يحين وقت ترسيخ الاستقرار، حيث يدخل المصرف المركزي مرحلة أكثر تقنية، تتضمن أدوات السوق كإصدار أذون وصكوك مركزية قصيرة الأجل (7–28 يوماً) لامتصاص السيولة، مع بدء تكوين سوق ثانوي بسيط، وفرض متطلبات رأسمال وسيولة أكثر صرامة على البنوك.
وأشار إلى أن منع توزيع الأرباح في المصارف المتعثرة، وإعادة إدماج تحويلات المغتربين في القنوات الرسمية بسعر قريب من السوق، يوفر دعماً حقيقياً للاحتياطيات ويضرب السوق الموازي في الصميم.
ويتمثل الهدف في هذه المرحلة بخفض التضخم إلى حدود 20–25%، والفجوة بين السعر الرسمي والموازي إلى أقل من 20 %، ويضيف المشعل: إن إعادة الثقة تبدأ بالملموس عندما يشعر المواطن بأن التضخم يتراجع نسبياً، وسعر الصرف لم يعد يقفز كل يوم.
المرحلة الثالثة: التوحيد والتحول إلى التعويم المُدار
هذه المرحلة، وفقاً للمشعل، هي نقطة تحول، إذ لا يمكن أن يبقى الاقتصاد في حالة “ازدواجية” سعر صرف، ولا أن تظل السوق الموازية هي المحدد الأساسي للأسعار، حيث يجب التوحيد عبر دمج كل أسعار الصرف الرسمية في منصة واحدة شفافة، وإلغاء الجداول المتعددة، وفق نظام جديد يتضمن الانتقال التدريجي إلى “تعويم مُدار” يتدخل المركزي بموجبه فقط لتخفيف التقلبات المفرطة، وتتحول السياسة النقدية تدريجياً من استهداف نمو الكتلة النقدية إلى جعل سعر الفائدة أداة السياسة الأساسية.
ولفت المشعل إلى أهمية الشفافية في هذا الشأن عبر إصدار تقرير تضخم فصلي يتضمن توقعات لأشهر مقبلة، مما يمنح الأسواق “بوصلة” لتوقع مسار الأسعار، وفي حال نجح المصرف المركزي في بناء مصداقية كافية واستجابت الأسواق لإشارات الفائدة والسياسة النقدية، فهذا يعني الدخول في مرحلة جديدة.
المرحلة الرابعة: تعميق الأسواق وترسيخ البنية التحتية
وفي هذه المرحلة يجب تعزيز البناء المؤسسي والعمق المالي، يقول المشعل، وذلك عبر توسيع آجال أدوات الدين وتنظيم سوق نشط لتداول السيولة، مدعوم بإطار ضمانات موحّد وإطلاق نظام مدفوعات فوري (FPS)، وربط رواتب القطاع العام بالحسابات المصرفية، ما يعزز الشمول المالي ويقلل الاعتماد على النقد الورقي، إضافة إلى تنشيط الرقابة المصرفية، وإلا ستبقى السياسة النقدية بلا أسنان، مهما كانت القرارات صحيحة.
المرحلة الخامسة: استهداف التضخم والمصداقية المستدامة
وقال المشعل: إذا نجحنا في الخطوات السابقة، يمكن في هذه المرحلة أن نعلن بوضوح أن هدفنا الأساسي هو التضخم، حيث يجب اعتماد نطاق تضخم مستهدف (مثلاً 6–8%)، مع الالتزام بنشر أسباب أي انحراف وخطة العودة للمسار، وإقرار قانون يرسخ استقلالية لجنة السياسة النقدية، مع مساءلة شفافة أمام البرلمان، ورفع نسبة المدفوعات الرقمية إلى أكثر من ثلثي النشاط الاقتصادي، بما يعزز الكفاءة والشفافية.
ويجب أيضا في هذه المرحلة اختبار المصداقية، وإذا التزم المركزي بهدفه وأدار توقعات التضخم بفعالية، فإن الثقة بالليرة ستعود تدريجياً، وستتحول من مجرد أداة تبادل ضعيفة إلى مخزن للقيمة يمكن الاعتماد عليه.
دروس من تجارب دولية
واستحضر المشعل تجارب دول واجهت أزمات اقتصادية مشابهة لسوريا منها:
- الأرجنتين، التي فشلت بسبب غياب الانضباط المالي واستمرار التمويل النقدي.
- تركيا، التي أثبتت أن السياسة النقدية لا يمكن أن تنجح إذا ظلت خاضعة لقرارات سياسية آنية.
- مصر، التي خاضت تجربة تعويم قاسٍ لكنه سمح لاحقاً ببناء سوق صرف أوضح.
وأشار المشعل إلى أن الدرس المستقى من تجارب هذه الدول واضح وهو أن الإصلاح النقدي لا يقوم على قرار إداري، بل على اتساق السياسات، وانضباط مالي، ومصداقية مؤسساتية.
الخلاصة: العقد الجديد بين الدولة والمجتمع
ورأى المشعل أن الإصلاح النقدي في سوريا ليس مجرد مسألة تقنية تخص المصرف المركزي، بل هو عقد ثقة جديد بين الدولة والمجتمع، فالمواطن لن يثق بالعملة إلا إذا رأى أن السياسات معلنة وتُنفذ كما أُعلنت، وأن التضخم لم يعد يلتهم دخله، وأن سعر الصرف لم يعد لعبة يومية.
واختتم الخبير المالي: إذا التزمنا بالمسار الخماسي المذكور أعلاه فإن سوريا يمكن أن تستعيد استقرارها النقدي، أما إذا استمرت القرارات الجزئية والارتجالية، فسنظل ندور في حلقة مفرغة من التضخم والتدهور.