دمشق-سانا
بين أزقة دمشق القديمة، حيث تختبئ الحكايات في تفاصيل البيوت والمقاهي العتيقة، وُلدت الأمثال الشعبية الدمشقية لتكون لسان الناس وذاكرتهم الحية، حملت في طياتها خلاصة التجارب اليومية، ومزجت الفكاهة بالحكمة والعفوية بالذكاء والنصيحة بالدّعابة، فاختصرت مواقف الحياة بكلمات قليلة تنبض بالمعنى والدفء.
ورغم تغيّر الأزمنة، ما زالت الأمثال الدمشقية الشعبية تحيا على ألسنة الناس، تروي قصص الماضي بروح الحاضر، وتبقى شاهداً على أصالة المدينة ووجدانها الثقافي.
الأمثال الدمشقية مرآة الحياة وروح المدينة
وبحسب دراسة نُشرت في جامعة دمشق بعنوان «المضامين التربوية للأمثال السائدة في البيئة الدمشقية»، تعبّر الأمثال الدمشقية عن جوانب متعددة من الحياة الاجتماعية، فمنها ما يتناول العلاقات بين الناس مثل: «اللي بيتو من قزاز لا يرمي الناس بحجارو» و«الجار قبل الدار»، ومنها ما يسلّط الضوء على التحديات اليومية كقولهم: «يلي بجرب المجرّب عقله مخرّب» و«بدك تحمو لا ترد بتمو».
وتحمل هذه الأمثال في طياتها فلسفة حياتية تجمع الذكاء الاجتماعي بروح الدعابة، كما تتضمن الحكم والنصائح مثل: «الباب يلي بيجيك منو ريح سدو وأستريح» و«المكتوب عالجبين لازم تشوفه العين».
ولا تخلو الأمثال الدمشقية وفق الدراسة من روح السخرية والمرح، كما في قولهم: «لابق للشوحة مرجوحة ولأبو بريص قبقاب» و«احترنا يا أصلع من وين بدنا نمشطك»، فيما حملت أخرى معاني الغزل والمدح مثل: «الحلو حلو لو فاق من النوم والبشع بشع لو غسل كل يوم» و«الطويلة إن قامت بتبين وإن أعدت بتزين»، حتى المأكولات الشعبية كان لها نصيب من الأمثال، كقولهم: «الملوخية أكلة ملوكية» و«المفركة بطاطا أكلت الشطاطة».
ويظهر في كل مثل دمشقي سحر القافية وموسيقى اللغة الممزوجة بخفة الظلّ والحكمة، ما يجعله جزءاً حياً من ذاكرة المدينة وهويتها الثقافية.
الأمثال الدمشقية في ذاكرة الأجيال
وفي حديثه لـ سانا، يروي الحاج إبراهيم الحلواني (65 عاماً)، من أبناء حي ساروجة، أن الأمثال كانت جزءاً من الحياة اليومية في دمشق، يتناقلها الناس في المقاهي والحارات ببساطة وعفوية، قائلاً: «تعلمناها من آبائنا وأجدادنا، فهي كلمات قليلة تحمل معاني كبيرة»، مضيفاً: إن الأمثال ما زالت رفيقة الذاكرة، مثل: «من رضي عاش»، «وعلى قد لحافك مد رجليك»، «اللي عقلو براسو بيعرف خلاصو».
ويرى الحلواني أن قافية الأمثال وسلاستها تعكسان الذوق الدمشقي، ما سهّل حفظها وانتشارها، مؤكداً أن حضورها ما زال قائماً رغم تغيّر الزمن، وأن الحفاظ عليها واجب لأنها تمثل جزءاً من التراث الثقافي اللامادي للمدينة، ويجب الحفاظ عليها وتوريثها للأجيال القادمة.
ومن حي الميدان، تقول الجدة شكرية القيشاني وهي تردد بابتسامة بعضاً من أمثالها اليومية: «كنّس بيتك ما بتعرف مين بيدوسه وغسل وشك ما بتعرف من ببوسه» و«المجدرة أكلة مقدرة» و«جوزك على ما عودتيه وابنك على ماربيته»، مضيفة: “جيل اليوم قلّ استخدامه للأمثال، لكني أحرص على تعليمها لأولادي وأحفادي لتبقى حية في ذاكرتهم”.
تراث حي
بدورها أوضحت الباحثة في التراث الدكتورة نجلاء خضراء، أن الأمثال الدمشقية تعد من أهم مكونات التراث الثقافي اللامادي للمدينة، فهي مرآة المجتمع ووسيلة نقد لاذعة للواقع بأسلوب ساخر يحمل غاية الإصلاح.
وأكدت خضراء أن أهمية الأمثال الدمشقية تكمن في نقل القيم والعادات بين الأجيال، وتعزيز الهوية والانتماء الوطني من خلال لغة بسيطة تجمع بين أفراد المجتمع، داعيةً إلى توثيق هذا الموروث الشعبي وإعادة إحيائه عبر الإعلام والدراما والمناهج التعليمية بأساليب معاصرة تحافظ على أصالته وروحه.
وتبقى الأمثال الدمشقية ذاكرة ناطقة تختصر تجارب الأجداد، حاملةً عبق الحكمة بسهولة وطرافة، ودفء الحياة اليومية في كلمات قليلة عميقة المعنى.