دمشق-سانا
بين ركام الأبنية المدمرة تتكلم الجدران بلغة الألوان والخطوط، وتتحول المساحات المهملة إلى لوحات تنبض بالحياة، لتشكل وثائق حية تنقل وجع الوطن وتفضح القمع الذي مارسه النظام البائد، عبر فن الغرافيتي الذي كان أحد أكثر أشكال التعبير جرأة وصدقاً خلال سنوات الثورة السورية.
الفنان الغرافيتي بلال شوربة المعروف برسام داريا أو أبو مالك الشامي، جعل من جدران داريا بريف دمشق والشمال السوري دفتراً مفتوحاً يسجل فيه آلام الناس وأحلامهم، وترك بصمته في أحياء عدة، حاملاً رسالة فنية واجتماعية تتجاوز حدود الشكل إلى عمق الفكرة.
البداية من اللافتات
الفنان شوربة ابن مدينة داريا أوضح في حديثه لسانا، أنه كان قبل عام 2011 يهتم بالرسم كهواية فقط لملء وقت الفراغ، لكن عندما بدأت الثورة السورية شكلت منعطفاً محورياً في حياته، حيث لاحظ في بدايتها أهمية اللافتات ومدى تأثيرها على الإعلام وإمكانية توجيه رسائل منها بشكل مباشر، فاستحوذت على اهتمامه، وأصبح يضيف إليها بعض الرسومات الخفيفة والرموز.
جداريات الثورة في داريا

يقول شوربة: “عانت داريا الكثير من الدمار والخراب على يد النظام البائد، فقمت بالرسم وكتابة بعض العبارات على جدران بيوتها المدمرة، رغم أنني لم أتلق أي تدريب، فشاهدها الإعلامي الشهيد مجد معضماني، الذي طلب مني حينها رسم جداريات في أنحاء المدينة كحملة لبث الأمل وتجديد روح الثورة، فبدأت تنفيذ أول جدارية تحمل معاني ثورية ورسائل توعوية عام 2014 وكانت عبارة عن تصميم لأحد الشباب الثوريين في الخارج”.
تأثر فني واسع وتجربة تُجسّد الإصرار رغم الحصار
ولفت شوربة إلى أنه في البداية تأثر بعمل فناني الثورة في عامودة وحلب وكفرنبل وسراقب دون معرفته الشخصية بهم، كما تأثر بالفنان علي فرزات الذي اعتدى عليه النظام بسبب رسوماته، واستفاد من الفنان البريطاني بانكسي المشهور بأعماله الفنية ذات الطابع السياسي وأسلوبه الترميزي.
ويستذكر شوربة أسماء فنانين دعموه معنوياً وزودوه بالمعلومات والملاحظات ما ساعده على تطوير أعماله كديالا برصلي وهاني عباس ومحمود سلامة.
وتابع شوربة: بعد أن زادت ثقتي بنفسي بدأت التفكير بأعمال خاصة نابعة مما نفكر به ونريد إيصاله، فكانت جدارية hope وهي رسمة لطفلة صغيرة تقف على جبل من الجماجم لتكتب كلمة أمل، فكان لهذه اللوحة انتشار واسع، وعرضت في مجلات ومواقع عالمية، ونشرت ضمن أفضل 15 صورة بمجلة نيويورك تايمز لعام 2025، وسجل حينها أن الفنان مجهول.
الدمار الكبير في داريا كان دافعاً كبيراً لتحدي آلة النظام البائد الوحشية، فكانت الجداريات دليلاً بصرياً صارخاً على الرغبة بالحياة، ويلفت شوربة في هذا الصدد إلى استخدامه أسلوباً مقارباً بتبسيط الأفكار واعتماد رسم أيقوني، وجعل المكان جزءاً من اللوحة والفكرة المراد إيصالها، حيث رسم في داريا 30 جدارية خلال فترة الحصار من 2014 حتى التهجير 2016.
وأضاف شوربة: إن التجربة في داريا كانت صعبة بسبب الحصار والقصف المستمر وشح مواد الرسم والألوان، ما اضطرني للذهاب إلى إدلب لاستمرار العمل، حيث رسمت مع عدد من الفرق مثل إيماءة وحملة عيش والدفاع المدني ما يزيد على 70 جدارية بمناطق شمال سوريا.
وقال شوربة: “لم أتلق أي دعم مادي ولا أجور مقابل الرسم، وعند حصار داريا استطعنا تأمين المستلزمات من المحلات المدمرة بصعوبة، وفي إدلب كنت أدخر من مصروفي في العمل لتأمين مستلزمات الرسم، وكان بعض الأصدقاء يقدمون المساعدة بتأمين التصوير ونقل المعدات.
الفن رسالة بكل اللغات
وقال شوربة: “الفن وسيلة وأداة يجب أن نستخدمها لنصرة قضيتنا والتعبير عن تضحيات شعبنا، واستطعنا من خلاله الوصول لفئات عالمية واسعة، وكان سبباً للتعريف بقضية الشعب السوري والتضامن معه”.
وختاماً، نصح شوربة الفنانين الشباب الذين يودون التعبير عن قصصهم عبر الفن أن يثقوا بأنفسهم، ويقدموا بقوة ومسؤولية على ما يؤمنون به ويعملون من أجله، (الشهداء والمفقودين والمصابين وذويهم)، وأن يجعلوا من الظروف الصعبة تحدياً للاستمرار والإنجاز في سبيل نصرة الحق.
وللفنان الشاب بلال شوربة أكثر من 70 جدارية في أحياء وبلدات مختلفة، جعل منها ذاكرة حية توثق جرائم النظام البائد، وتستحضر أصوات الضحايا.


