الصورة الأخرى

بقصد أو بدونه، تساهم أغلبية وسائل الإعلام الدولية والإقليمية في الترويج لـ “صفقة” القرن، وكأنها قدر محتوم للمنطقة، ولا سيما أن التمهيد لهذه الصفقة يتم على قدم وساق دون أن يلقى رفضاً جدياً يرقى إلى مستوى الرد العملي من قِبل أول المتضررين منها، وهُم العرب الذين اكتفى نظامهم الرسمي البائس باستنكار الخطوات الأمريكية الممهدة.. من إعلان القدس عاصمة لكيان العدو..إلى الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان العربي السوري المحتل. استنكار بدا كنوع من ذر الرماد في العيون لإخفاء حقيقة هذا النظام الذي تتحكم الرجعية العربية المتصهينة بقراره، إذ لم يكن الرئيس ترامب يستطيع الإقدام على اتخاذ مثل هذه القرارات الخطيرة لو لم يكن واثقاً من ولاء أتباعه العرب. والأخطر من ذلك هو أن غياب التحرك العربي ضد ما يُفترض أنه بداية تنفيذ الصفقة أو المشروع الأمريكي الصهيوني الجديد المعُدّ للمنطقة لا يمكن تفسيره إلا بانخراط الأنظمة الرجعية العربية في ذلك المشروع، حيث يظهر بكل وضوح أن الموقف الرسمي المتخاذل من قرارات ترامب يندرج في سياق النهج السياسي التواطئي الذي تنتهجه تلك الأنظمة، والذي أخذت ملامحه بالتشكل مع إعلان كوندليزا رايس عام 2006 عن مخاض الفوضى الخلاقة لولادة الشرق الأوسط الجديد، ليصبح في مرحلة ما سُمي “الربيع العربي” أداة القضاء على هوية الأمة العربية، وتفكيك دولها الوطنية، وضرب مشروعها العروبي المقاوِم، وصولاً إلى التحالف المعلن مع الكيان الصهيوني والتطبيع المتسارع معه، كما عبر عنهما مؤتمر وارسو سيئ الذكر، مما أسهم في تمكين المجرم نتنياهو من الفوز في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة…

في ظل هذه الصورة القاتمة للوضع العربي، يجد الإعلام العدو بيئة خصبة للتأثير في العقل العربي، وتهيئته للقبول بصفقة القرن كمشروع لا سبيل إلى الاعتراض عليه ومقاومته. لكنْ لا منطق القوة، ولا منطق الأمر الواقع يمكن أن يفرض هذه الصفقة مهما توفر لها من الإمكانيات السياسية والمالية والإعلامية، فالكلمة النهائية تبقى لإرادة الجماهير العربية وقواها الحية المقاوِمة، والتي يبدو أن مخططي الصفقة لم يحسبوا لها أي حساب، مع أن هذه الجماهير هي التي أفشلت بصمودها وتضحياتها أهداف أمريكا و”إسرائيل” في أكثر من قطر عربي، وهي التي تملك القدرة على تغيير القدر الأمريكي المرسوم للمنطقة، وهي الخزان الهائل لعرب المقاومة المتمسكين بحقوق الأمة والمدافعين عن أرضها وشعبها وكرامتها …

إنها الصورة الأخرى للواقع العربي كما تبرزها الإنجازات الشعبية البطولية في سورية وفلسطين ولبنان والعراق وغيرها من الدول العربية، الصورة التي تتعرض لمحاولات الطمس والتشويه المنهجيين من قبل الإعلام المتصهين المأجور، بالرغم من أنها الصورة الحقيقية التي يتجسد فيها ضمير الأمة ونبضها الوطني والقومي العصي على الإسكات.

صحيح أن التحدي كبير ومصيري، ولكن التاريخ علمنا أن إرادة الشعوب فوق إرادة قوى الاستعمار والهيمنة والعدوان. وواهم من يعتقد أن القوة الأمريكية قادرة، مهما توحشت، على التحكم بمصائر شعوب المنطقة، فكما قال السيد الرئيس بشار الأسد أمس لمستشار الأمن الوطني العراقي: “إن مصير المنطقة لا يقرره سوى شعوبها مهما عظمت التحديات”.

محمد كنايسي