الشريط الإخباري

كُـلّ عيد وأنتم بخيـر

في غزّة، وفي صباح كلّ عيد، ننثرُ «الآس» على مساحة أرض القطاع لنزيّن مساقط الشهداء، ففي كل شبر شهيد، وفي كل خطوة آهات موجوعة، ولوحات كانت تنطق على جدران البيوت، ودمىً تحمل أسماء الأطفال أصحابها، ما زالت تنبض برائحتهم وضحكاتهم وشقاوتهم.
عجوز أنهكته الأيام تعباً يحمل «الكمان»، ما يزال يتقن الحب والعزف على إيقاع دمعتين تعلقتا على حد رموشه، لم تسقطا بعد.
أوراقٌ صفراء منثورة بفوضى فوق الأثاث البالي، تحشو في تجاويفها ذاكرةً خَرِفَة، وتاريخاً عبثياً زاخراً بالنفاق والكذب، وأشياءَ صغيرة مركونة على رفوف خشبية لم تعد تنهَدُ بريقها الذي كان.
ـ افتح النافذة للشمس.!
ـ عن أيّ شمس تتحدثون.؟
ومنذ متى كانت نوافذ البؤساء تَفتَحُ على خيوط الشمس.؟ إنها تشرقُ في فضاءاتٍ أخرى.. بعيدة، وغريبة عني، تصفع بريق الشاشات الجاعرة، تصفّق وتباركُ وتُحيي وتتمنى.
كل عيد وأنتم بخير.!
الفراشةُ تضرب بجناحيها الشفيفين زجاج النافذة، ووريقات الريحان تَنصَبُّ إليها شوقاً، حاولتُ أن أفتح ظِلاً من شقوق النافذة، لكنني وجدتها قد تكلّست منذ زمنٍ غارقٍ بالدهشة، لم أعد أحسب كم مضى منه، وكم سيأتي.
ـ كل عيد وأنتم بخير أيها الباحثون عن صدى ابتسامة بين ركام بيوتكم، ونُتفَ أطفالكم؟
كانت مواكب الشحنات السوداء المعبأة بتخاريف الكشوف التصويرية، وتهويمات الباحثين عن ثرائهم، تحوّم بين لفائف البائسين، تقذفُ من رئتيّ المتعَبتين، إليهم، ما تبقّى من التعب.
قال ذلك الأفّاق وهو يفتحُ محفظته المحشوّة بورقٍ أخضر:
ـ قضيّةٌ قاربت على مستقرٍ لها أخير.!
الفراشةُ تداعب حروف الشاشة المضيئة، تلامس خافقي بصفاء ألوان معشّقة على طرفي جناحيها، تحوم كالقدر، فتغرقني في لجاجات الدائرة.
كل عيد والعالم الحرّ بخير.!
غالباً، لا أجيد غير التحويم بلا هدف، وبلا بوصلة، وبلا صعقة نشوة أرجوها لو تأتيني من خارج هذه الدائرة، تحمل لي صدى تلك الابتسامات الغائبة.
أرنو إلى شبح الشاشة، هذه الساكتة ضياءً، لا شيء يأتي منها، غير دوائر واهمة ليس لها أثر، تضيف إلى قفلٍ يقيّدني، أقفالاً جديدة، تحمل مع صديدها الأحمر مسميات جديدة.
كل عيد وأنتم بخير..
يُصارعني الوقت، يعلن في كل ومضة أنه قارب على فتق رتوق الشرايين، فهل أغرق في الأحمر الموشوم بلسعات السواد المتمكّنة مني.!؟
الفراشة تمارس فنّ الشدو، والأطفال غارقون في لجّة الدمار، والجوع، والحصار، وأنا أغرق في لجّة ذاتي المطحونة بالوجع.
هل يمهلني الوقت لأصنع من ذاتي طيف قرار.؟ أم أتعلّق ذات يوم إلى جانب هذا العجوز، خشبةً دون أوتار، ونغماً ليس له صدى، أتحنّط وحدي حول دائرة لم تعد لي، ولم أعد أطير في حومَتها، ثم.. سريعاً أو بطيئاً تخنقني سطوة الدماء الطافحة من مآقي الأطفال المصهورين في بوتقة الظلم، والصمت المهين.
فجأة خَرَجَتْ من قلب الركام دميّة صغيرة، لوَّثت فستانها الزهريّ بقعٌ من أبيضٍ فسفوريّ بشع، نَظَرَت في عينيّ الطفل الهزيل، وأرسلت ابتسامة دافئة.
كان الطفل مضرّجاً بدمه، ساقه مطويّة، يقبض عليها كي لا تسقط على رمال الشاطئ، حملوه، فشقّت الساق المبتورة بطن الرمل، لتكتب اسم الصغير الشهيد خالداً، شاهداً على عظمة البحر الفلسطيني الباقي أبداً يعلن انتماءه لغزّة. عادت الفراشة تبحث من وراء الزجاج عن قصفة ريحان معبأةٍ على أعوادٍ وتريّة، كي تقدمها إليّ على قصاصة ابتسامة رجفت طويلاً قبل أن تهمس بودّ:
ـ كلّ عيد وغزّة هاشم باقية منتصرة وبخير.
بقلم: عدنان كنفاني