الشريط الإخباري

وَهــجُ الذاكِــرة

لم يكن أمام غسان كنفاني، والأجيال التي أطلّت إلى نور الحياة وسط الأحداث التي عصفت بفلسطين، وشعب فلسطين في العام 1948، إلا أن يكونوا في أتونها حيث لا اختيار.

ولم يكن أمام الجيل الذي عايش الحدث، إلا أن يحمل الذاكرة، يورّثها، ليُبقي وهج القضية يتفاعل في صدور الأجيال تباعاً، ذاكرة المكان، والوطن، والتاريخ.

كنت، وأنا في تلك السنّ المبكّرة، أرى والدي يبكي وهو يراقب غسّان يحمل الطاولة الصغيرة، ويجلس إليها أمام مبنى المحكمة «في بناية العابد بدمشق»، يكتب العرائض مقابل قروش يدسها في يد أمه، وكان طفلاً لم يزل.!

وعندما صار مدرّساً في مدرسة «الأليانس» كان طفلاً.

وعندما سافر إلى الكويت «في ظروف صعبة جداً»، كان طفلاً، وحين بدأ المرض يأكل من حياته كل يوم قضمه كان طفلاً أيضاً.

إذا شئت أن تسمي كل هذا الشقاء طفولة.! فهي طفولة غسان.

لقد رأى بيته في مدينة عكا يغيب بلا عودة، وبرتقاله في يافا يُسرق، ووطنه يغوص بالضياع، رأى المأساة، كل المأساة، وعاشها بكل دقائقها ولحظاتها.

رأى العالم يلهو على جراحنا، ورأى الحكومات العربية وهي تضعنا على طاولة المزاد العلني.

فهل كان أمامه أي مجال للاختيار.؟

كانت الثورة قدر غسّان، وقدر الجيل كلّه، منحها قلبه وقلمه وفكره ووجدانه، واستطاعت الثورة بأصالتها المسكونة في صدره، أن تصل به إلى مصاف الكمال حين تُوّج بالشهادة.
يقول والدي في مذكراته: (لقد كان غسان ولدي، وقطعة من كبدي، بفقده فقدت جزءاً عزيزاً من وجودي، ولكن عزائي أنه استطاع أن يعيش قدرَهُ بكل روعة البذل، وسخاء العطاء.. لقد أرعب بقلمه وفكره قتلة أرضه وإنسانيته، كان يدمي أجسادهم كما يفعل الرصاص، استطاع بصموده وإخلاصه لثورته أن يحمل «صليبه» طوال ست وثلاثين سنة،م يقف بشجاعة الثوار، ويُدَقُّ عليه).

كان غسان صورة لفلسطين، كان قضية، وكان المشعل الذي أنار الطريق أمام خطوات إخوته ورفاقه لتشتد المسيرة بهم، وليكبر العطاء.

وأنا «أنبش» في أوراق والدي «رحمه الله» عثرت على ورقة صغيرة، يبدو أن والدي كتبها بُعَيد استشهاد غسّان في رثائه، ولم تجد طريقها للنور، فرضت عليّ الأمانة الأدبية أن أنقلها، تأصيلاً للفعل المقاوم.

كتب والدي يقول: (ولدي غسان.. كنت أعلم يقيناً أنني سأفقدك يوماً شهيداً، سراجاً من نار ونور على صليب نضالك، لأنني نذرتك لهذا اليوم منذ رأت عيناك الدنيا.

ولكنك يا ولدي قطعة من كبدي، رعيتك بعينيّ، وحنوت عليك بنبضات قلبي، حبوت على كفيّ، ودرجت كلماتك الأولى بفرحتي ولهفتي.

يا ولدي الحبيب.. بكيتك بدموع بكيت مثلها وأنا أودع بيتنا في عكا، فُجعت بك كما فجعت بوطني حين كنت أراه يذوب في بحيرات في الضياع.. وأعلم يا ولدي أنك على حق، تكتب الصدق والحقيقة، كنت أقف وراء كلماتك وكتبك وأحاديثك، أشم منها رائحة البارود، وأسمع منها صوت الرصاص، وصوت الحقيقة، لذلك قتلوك، لأنك على حق، ولأنهم أرادوا إسكات صوت الحق.

يا ولدي الحبيب.. عزائي فيك أنك توّجت نضالك بأروع إكليل غار، وزينت كفاحك بأنبل وسام.

عزائي أنك عبّدت باستشهادك أنت، وكل من قدم حياته قرباناً لفلسطين، طريق الحياة، أنكم بعثتم من قلب الألم، صيحة الأمل، لقد رأيت ذلك الأمل نابضاً في وجوه الآلاف المؤلفة الذين ودعوك.

أي بنيّ.. عندما يكبر الصغار، وعندما يدرجون في شوارع عكا وأزقتها، سوف يذكرون دائماً أنك عبّدت باستشهادك، طريق عودتهم.)

رحمك الله يا والدي فكم كنت صادقاً وكبيراً..

بقلم: عدنان كنفاني